ندوات الإعجاز العلمي : الندوة 21 / 30 : الكون ومداراته ، لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
المذيع :
اللهم صلِّ ، وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله و صحبه أجمعين .
إخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، لما كانت المعارف مكتسبة في تطور مستمر وجب على أمة الإسلام أن ينفر منها في كل جيل نفر من علماء المسلمين الذين تزودوا بالأدوات اللازمة للتعرض لتفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله ، كالإلمام باللغة العربية ، ودلالات ألفاظها ، وأساليب التعبير بها وقواعدها النحوية والبلاغية ، وغير ذلك من علومها المختلفة ، ويجب طبعاً المعرفة بأصول الدين وبأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ ، والمأثور في التفسير وبجهود السابقين من كبار المفسرين ، وبالقدر اللازم من العلوم المتاحة عن الكون ومكوناته ، وغير ذلك مما يحتاجه كل من يتشرف بالقيام بمثل هذه المهمة العظيمة .
مع تفسير هذه الآيات الكونية والآيات القرآنية ، ومع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق ، والخطيب والأستاذ الديني في جوامع دمشق ، أهلاً و سهلاً بك .
الأستاذ :
أهلاً وسهلاً بكم يا سيدي .
المذيع :
الكون هي عبارة كبيرة جداً ودلالتها كبيرة أيضاً ، نريد أن نتعرف أكثر فأكثر على هذه الكلمة ومدلولاتها .
الأستاذ :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عبد الحليم ـ جزاك الله خيراً ـ بادئ ذي بدء الكون ما سوى الله ، في القرآن الكريم يقابله السماوات والأرض ، في المصطلح الحديث الكون ، والكون ما سوى الله , وقد تحدثت في لقاء سابق عن أن الله واجب الوجود ، بينما ما سواه ، وهو الكون ممكن الوجود ، ممكن أن يكون ، أو أن لا يكون ، ممكن إذا كان أن يكون على ما هو كائن ، أو على خلاف ما هو كائن .
على كلٍّ في صحيح ابن حبان عن عطاء أن عائشة رضي الله عنها قالت : (( أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي ، وقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي عز وجل ، فقام إلى القربة ، فتوضأ منها ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد حتى بلّ الأرض ، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي ، وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة :
[ سورة آل عمران : الآية 190]
قال عليه الصلاة والسلام : ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها )) .
وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام : (( أمرني ربي أن يكون صمتي فكراً ، و نطقي ذكراً ، و نظري عبرًا )) .
(ورد في الأثر)
الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : " من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ، ومن لم يكن نظره عبرة فهو لهو " .
والله عز وجل الذي خلق السماوات والأرض بالحق يقول :
[ سورة فصلت : الآية 53]
والحق هو القرار والثبات والسمو والعلو ، ونقيضه الباطل ، وهو الزوال والزهوق والتردي والعبث ، قال تعالى :
[ سورة فصلت : الآية 53]
فأين هي آيات الله في الآفاق ؟ الآن دخلنا إلى الموضوع ، ورد أن عدد النجوم في السماء بعدد ما في الأرض من مدر وحجر ، والعجيب أنه قبل أسبوعين أو ثلاثة صدر تصريحٌ لأحد علماء الفلك الكبار يقول فيه : إن عدد نجوم السماء بعدد رمال الأرض ، وهذا تقريب للعدد ، أي بعدد ذرات التراب والحجارة ، فعلماء الفلك في الماضي كانوا يعدون النجوم بالألوف ، وبعد أن ارتقت كفاءة مراصدهم صاروا يعدونها بالملايين ، ثم وصلوا إلى المليارات ، أي ألوف الملايين ، أما اليوم فإنهم يقدرون عدد نجوم السماء في مجرتنا درب التبابنة من خلال المراصد العملاقة بثلاثين مليار نجم ، علماً أن مجرتنا مجرة متوسطة في حجمها ، وهي واحدة من عشرات ألوف الملايين من المجرات التي لا يعلم عددها إلى الله ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
[ سورة ق : الآية 6]
المذيع :
هذا عن عدد النجوم ، وذكرنا أنها بالملايين ، فكيف إذا ذكرنا الحجم الكبير لكل نجم ؟
الأستاذ :
أستاذ عبد الحليم ، إذا علمنا أن حجم الأرض يساوي مليون مَليون متر مكعب ، وأن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، وأن المسافة بينهما مئة وخمسون مليون كيلو متر ، وأن نجماً من النجوم في برج العقرب ـ كما ذكرت قبل هذا في حلقة سابقة ـ يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، وأن نجماً اسمه منكب الجوزاء يزيد حجمه على حجم الشمس بمئة مليون مرة ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
[ سورة الذاريات : الآية 47]
المذيع :
إذاً فضيلة الدكتور الأعداد مهولة ، والحجم كبير كما ذكرت ، طبعاً هناك مسافات بين النجم والأرض ؟
الأستاذ :
مسافات فلكية ، أي نحن في الأرض إن أردنا أن نذكر رقماً غير معقول رقماً يفوق حد التصور نقول : إنه رقم فلكي .
الحقيقة أن ما بينها من مسافات تقدر بالسنين الضوئية ، فالضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، إذاً هو يقطع في السنة عشرة آلاف مليار من الكيلو مترات ، فإذا علمنا أن القمر يبعد عنا ثانية ضوئية واحدة ، وأن الشمس تبعد عنا ثماني دقائق ضوئية ، وأن المجموعة الشمسية لا يزيد قطرها على ثلاث عشرة ساعة ضوئية ، وأن أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، ولكي نعلم ماذا تعني أربع سنوات ضوئية ، لو اتجهنا إلى هذا النجم بمركبة تساوي سرعتها سعة مركبة القمر لاستغرقت الرحلة أكثر من مئة ألف عام ، ولو ساوت سرعة هذه المركبة سرعة السيارة في الأرض لاستغرقت الرحلة هذه قريباً من خمسين مليون عام ، هذا ما تعنيه أربع سنوات ضوئية ، أي إن أردنا أن نصل إلى هذا النجم بمركبة أرضية لاحتاج إلى خمسين مليون عام ، فما القول في سديم المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ؟ بل ما القول في مجرة اكتشفت حديثاً تبعد عنا عشرين ألف مليون ؟ أي عشرين مليار سنة ضوئية ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
[ سورة الواقعة ]
هذا ولم نتحدث عن حركات النجوم وعن سرعاتها العالية ، ولا عن مداراتها الواسعة ، ولا عن شدتها ، ولا عن قوة إضاءتها ، ولا عن قوى التجاذب التي تربطها ، ولا عن توازنها الحركي ، وعلى كلٍّ فالعجز عن الإدراك إدراك ، قال تعالى :
[ سورة الزمر : الآية 67]
المذيع :
قال الله تعالى :
[ سورة فصلت : الآية 53]
تحدثنا فضيلة الدكتور عن الكون بشكل عام ، وعن النجوم كم لها من الحجم الكبير ، والعدد المهول لها ، ولكن إن أردنا أن نعطي فكرة صغيرة عن مدارات الكواكب هل ذكر في القرآن الكريم مثلاً ؟
الأستاذ :
لاشك أن هناك استنباطاً لطيفاً من قوله تعالى :
[ سورة يس : الآية 40]
هذه الآية على ظاهرها تدل على أن للشمس مداراً ، وللقمر مداراً ، ومدار الشمس لا يتصل بمدار القمر ، ولن تصطدم الشمس بالقمر ، بل كل في فلك يسبحون ، والآن الطائرات ـ أستاذ عبد الحليم ـ كل طائرة لها مسار ، لو لم يكن هناك مسارات خاصة لكل طائرة ، ولكل رحلة لكان هناك فواجع في الجو ، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى :
[ سورة فاطر : الآية 41]
أي أن تنحرف عن مسارها الذي رسم لها ، وقوله : أَنْ تَزُولاَ ، أي أن تنحرفا ، والزوال في وقت الظهيرة انحراف الشمس عن كبد السماء .
لقد فهم من هذه الآية الكريمة أن كل كوكب في الفضاء له مدار يدور فيه ، حتى إن بعضهم حينما تلا قوله تعالى :
[ سورة الطارق : الآية 11]
رأى أن هذه الآية فيها أدق رسم للسماء ، فما من كوكب أو نجم في السماء إلا وله مدار يدور فيه ، و يعود إلى ما كان بعد حين ، فهذا المذنب الذي يرقبه الناس كل يوم ، طبعاً مضى وقت كان هناك إعلان إخباري عن أن هناك مذنبًا سوف يقترب من الأرض ، فهذا المذنب الذي راقبه الناس كل يوم مذنب هالي منذ أن خلق الله السماوات والأرض يدور في مدار لا يحيد عنه قيد أنملة ، يصل إلى نقطة تقترب من الأرض ثلاثمئة مليون كيلو متر ، له ذيل يزيد طوله على ثلاثة وتسعين كيلو مترًا ، ويخاف الناس أن يبقى في سيره مستقيماً فيرتطم بالأرض ، أما الآية الكريمة فتقول :
[ سورة فاطر : الآية 41]
المذيع :
إذاً للمذنب مدار معين حول الأرض ؟
الأستاذ :
نعم لا يحيد عنه أبداً :
[ سورة يس : الآية 40]
إن بقاء هذا المذنب في مداره ملايين السنين ، وبقاء الأرض في مدارها ملايين السنين ، وبقاء الشمس في مدارها ملايين السنين في حد ذاته آية عظيمة جلّت من آية ، قال تعالى :
[ سورة يس : الآية 40]
قد لا نصدق أن هذه الساعة الشهيرة في لندن ساعة ( بيغ بن ) ، والتي يقال : إنها قد تزيد أو تنقص في العام ثانية واحدة ، على ماذا تضبط ؟ على حركة نجم ، حركة النجم الذي يقطع ملايين مَلايين ملاَيين مَلايين ملايِين الكيلو مترات ، يأتي في وقت لا يقصر ، ولا يسبق ولا ثانية واحدة .
مثلاً : لو أن قطاراً يقطع من الخرطوم إلى القاهرة ، انطلق في الساعة السادسة ، وقيل : سوف يصل في الساعة السادسة والدقيقة الواحدة والثلاثين ، أليس من الروعة ومن الإنجاز العلمي أن يصل في وقت يحسب بالدقائق ؟ هذا من صنع إنسان ، كذلك هذا النجم العملاق الذي يقطع مليارات مَليارات مليارَات الكيلو مترات يصل بدقة تضبط عليها ساعة ( بيغ بن ).
فكل كوكب له مدار لا يزيد ولا ينقص ، والكوكب لا يسرع ، ولا يبطئ ، فالشمس لن ترتطم بالقمر ، ودورة الأرض حول نفسها ثابتة ، وطول الليل لا يتغير ، أي إن التقاويم بعد مئة عام تبقى صحيحة ، بعد ألف عام تبقى صحيحة ، بعد خمسة آلاف عام تبقى صحيحة ، والدليل أن كل بيت فيه تقويم يمكن أن تقول : في عام ألفين وثمانمئة الشمس في يوم ثلاثة وعشرين من شهر شباط تشرق الساعة الخامسة والدقيقتين ، ماذا يعني هذا ؟ ثبات حركة النجوم ، ثبات الأزمنة والأمكنة والمسارات والمدارات ، هذا شيء يلفت النظر .
المذيع :
دقة في التصميم والتنظيم لابد أنها قدرة الخالق .
الأستاذ :
وأن تكتشف قبل خمسة آلاف عام أن الشمس في اليوم الثالث والعشرين من شهر شباط سوف تشرق في الساعة الخامسة ودقيقتين ، هذا معنى قوله تعالى :
[ سورة يس : الآية 40]
دورة الأرض حول نفسها ثابتة ، وحول الشمس ثابتة ، وكل في فلك يسبحون ، لكن علماء الذرة دهشوا من هذه الآية ، قوله تعالى :
[ سورة يس : الآية 40]
فعلام تدل كلمة كُلٌّ ؟ هذه الآية تعود على كل شيء خلقه الله عز وجل ، فالمنبر فيه ذرات ، وفي الذرات نيترونات تدور حول نفسها ، ونظام الذرات كنظام المجرات ، وكل شيء تقع عينك عليه مؤلف من جزئيات ، والجزيء مؤلف من ذرات ، والذرة مؤلفة من نواة ، ومن كهارب لها مدارات ، ولها سرعة ثابتة ، هذه الآية التي تشير إلى الذرة ، قال تعالى :
[ سورة يس : الآية 40]
أي كل شيء خلقه الله في فلك يسبحون ، ذرات الصخر والحجر والخشب والماء والبلور والطاولة ، وكل شيء تقع عينك عليه إنما هو جسم مؤلف من جزئيات ، والجزيء من ذرات ، والذرة من نواة .
المذيع :
في نهاية هذه الحلقة هناك الكثير مما استفدنا منه عن الكون ، وعن النجوم ، والعدد الهائل لهذه النجوم ، وأحجامها ، كما أن مدارات الكواكب بهذه الدقة حتى ذكرت لنا أن ساعة بيغ بن تضبط على حركة نجم .
أيها الإخوة والأخوات ، مع هذه الدقة في هذه الحلقات ، ومع إعجاز القرآن الكريم نتابع مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي في حلقات أخرى حول هذا الموضوع ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته .