رقــم الــدرس : 42 / 100 ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
المــوضــوع : أسماء الله الحسنى : الرقيب .
تفريغ : السيّد عماد علاّن .
تدقيق لغوي : ياسين رزق
تنقيح نهائي : المهندس غسان السراقبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللّهم لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ، اللّهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصّالحين.
أيّها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الثاني والأربعين من دروس أسماء الله الحُسنى و الاسم اليوم هو( الرقيب )، فالرقيب اسمٌ من أسماء الله الحُسنى إنَّ المؤمن إذا آمن بهذا الاسم ، انعكس هذا الإيمان على سلوكه انعكاساً واضحاً صارخاً ؛ فأنت إذا شعَرت أنك مٌراقب فلابٌد من أن تنضبط ، فشعور الإنسان بأنه مٌراقَب ، ولو من جهة أرضية ، ولو من إنسان من بني جلدته لكنه أقوى منه إذا كنتَ مراقَباً ، فلا بد من أن تنضبط؛ فَكيف إذا أيقنت أن الله -جل جلاله -هو الرقيب ! قال تعالى :
(سورة النساء)
أيها الإخوة : أحياناً تكون العَقَبة عقبة معرفة ، لأن فطرة الإنسان تُعينه إذا عرف ، فَحُب السلامة ، وحُب الفوزِ والكسبِ في الإنسان ، كافِيان يَحمله على طاعة الله فيما لو أيقن أن الله رقيبٌ عليه ، فالمراقبة حال ذكره العلماء كثيراً ؛ هذا الحال يُشعِرك أن الله معك دائماً . قال عليه الصلاة والسلام : " أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان " .
قبل أن نتابع الحديث عن اسم الرقيب أريد أن أضع بين أيديكم مثلاً يوضح حقيقة هذه الأسماء ؛ أنت لو اِلتقيت عند صديق لك مع رجلٍ لا تعرفه تقول له : مَن الأخ الكريم ؟ يقول لك: فلان بن فلان ، بِرَبَّك أن يذكر لك صديقك اسم هذا الرجل هل يكفي لكي تعرفه ؟ تشعر أنك سألت عنه كي تعرف كل شيء ، قال لك اسمه . تقول له ماذا اسمك ؟ إلى أيِّ مستوى دراسي وصلت ؟ وتحب أن تعرف شيئاً عن ثقافته ، أو عن إختصاصه ، أو عن سِنِّه ، أو عملِه ، هل هو متزوج ؟ وكم ولد له ؟ و أين يسكن ؟ هنا يمكنك أن تعرفه ؟ لكن إذا قلت لك : إن الله - جل جلاله - خالق السموات والأرض ، فهذا لا يكفي ؛ فأنت تحب أن تعرف أسماءه وصفاته ، فما من موضوعٍ يعلو على موضوع أسماء الله الحسنى ، إذْ رأس الدين معرفة الله -عز وجل - ولكن كيف تعرفه ؟ هل تردد اسمه ؟ لا ، أن تتعرف على أسمائه وصفاته الحسنى ، فَلِذلك مشروعية هذا الدرس أنه لا يكفي أن تعرف أن الله خلق السماوات والأرض ، إن هذه الحقيقة يعرفها كل الناس حتى الكفار ، بل عُبّاد الأصنام بل حتى المجوس قال تعالى :
(سورة العنكبوت)
(سورة العنكبوت)
فالمشكلة ليست أن تتعرف أن الله خلق السموات والأرض ، وإنما المشكلة أن تتعرف إلى أسماء الله الحُسنى ؛ فهذه هي مشروعية هذا الدرس الذي يُعد في الدعوة إلى الله كالرأس من الجسد .
أولاً : الرقيب في اللغة بمعنى المُنتظر ، قال تعالى :
(سورة هود)
" فارتقبوا " أي انتظروا فالرقيب هو المُنتظر . ورقيب القوم هو الحارس الذي يُشرف على مراقبة العدو . ورقيب الجيش طليعته . والرقيب هو الله الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، قال تعالى :
(سورة النساء)
إذا أيْقنت أن الله يعلم ، حُلَّت كل مشكلتك ؛ ألم يقل الله –عز وجل- :
(سورة الطلاق)
فالله اِختار من بين أسمائه اسمين فقال : " لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا " فإذا علمت أن الله يعلم ، فَبِدافع فِطرتك ، وبدافع حُبك لذاتك ، وبِدافع رغبتك في السلامة والكسب والتفوُّق ، تستقيم على أمره .
زرتُ مرةً مَحَلاً تجارياً كي أشتري بعض الحاجات فلم أجد رغبتي فقال لي صاحب المحل : حاجتك موجودة ولكن بالمستودع فذهبت معه إلى المستودع وكان في الطابق الرابع فوجدت محاسِباً يجلس إلى طاولة وأمامه كاميرا تذكرت ما رأيته في محل ذاك الشخص فإنني رأيت شخصاً يكتب ، عندها عرفت أن هذا الشخص موظف عند صاحب هذا المحل وقد وضع صاحب المحل جهاز مراقبة عليه ، فهذا العامل لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يأكل ولا أن يتمطى لأنه مراقب من طرف هذا الشخص ، يقولون الطريق مراقب ، كنت في بعض البلاد المخالفة فيها بِخمس مئة درهم بِمعدل سبعة آلاف ليرة سورية ، فالاهتمام بالغ جداً بالسرعة لأن قيمة المخالفة سبعة آلاف ليرة تقريباً ، لو جاوز العدّاد التسعين لصارت المخالفة بسبعة آلاف ، فالمراقبة هي التي تجعل الحذر .
في الإدارات الحديثة صار البناءُ كله وِحدة صوتية ومرئية فَبِإمكان المدير أن يرى كل الموظفين ، دخلت بعض المعامل السورية فوجدت كل الغرف بينها بِلَّوْر فقط فالمدير العام يرى كل الموظفين ؛ ولكن المراقبة من الإنسان شيء والمراقبة من الواحد الديان شيء آخر . لذلك بعض علماء القلوب أشاروا إلى حال المراقبة ، المؤمن الراقي يشعر دائماً أن الله يُراقبه ، وأنه تحت المراقبة قال تعالى :
(سورة الفجر)
فالرقيب هو المُنتظر ؛ والرقيب هو الحارس ؛ ورقيب الجيش هو طليعته ؛ والرقيب هو الله تعالى الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء . وفي الحديث الشريف : : " اُرقبوا محمداً في آل بيته " أيْ راقبوا وانتبهوا أن تُؤذوه في آل بيته واحفظوه فيهم ؛ والرقيب هو الخَلَف يُقال : نِعم الرقيب أنت لأبيك ، هذه كلها معاني الرقيب ؛ والترقّب أي الانتظار ، واِرتَقَبه رَصَده ، والرقوب الدوام على وجه الحفظ يُقال : أرقَبت الشيء ، أرقبه إذا راعيته وحفِظته ، والرقيب من الناس الموكل بحِفظ المُتَرَقب له ، ويقال للملك الذي يكتب الأعمال ويحفظ الأقوال هو رقيب ، وفي القرآن الكريم :
(سورة ق)
والرقيب العليم ، وراقَبْتَ الله إذا علِمت أنه مُطلّع عليك فَراعيْتَ حقه ، هذا كل ما ورد في اللغة عن معنى الرقيب : فهو الذي ينتظر ، والحارس ، وطليعة القوم ، الخَلَف ، والمنتظر ، والرَّاصْد ، والراعي ، والحافظ ؛ الله جل جلاله هو الرقيب ؛ والمَلَك المُوَكل بِكتابة الأعمال ، وحِفظ الأقوال هو الرقيب .
إذا قلنا : الله هو الرقيب ؛ فماذا تعني الله هو الرقيب ؟ بِمعنى الذي يعلم أحوال العِباد ويعُدّ أنفاسهم . والله الذي لا إله إلا هو وأنت مستلقٍ على فِراشك لو خَطر عليك خاطر أنَّ غداً سَأفعل كذا ، يجب أن تؤمن وأن تعلم وأن تعتقد اِعتقاداً جازماً قطعيّاً ، أن هذا الخاطر اِطَّلع الله عليه ولا يستطيع من العباد أن يفعل ذلك ، إذْ لو أنك رأيت شخصاً مستلقِياً على فراشه لا يمكنك أن تقرأ أفكاره فهذا مستحيل . الله ستر لك أفكارك وأحوالك عن الناس . الناس لهم الظاهر لكن الله هو الخبير بالسرائر قال تعالى :
(سورة ق)
مرةً ثانية أقول : إن هذا الاسم من أقرب الأسماء إليك ؛ إنك إن اعتقدت أنّ الله هو الرقيب فمن اللوازم القطعية للإيمان بهذا الاسم الاستقامة على أمره ؛ ومتى اِستقمت على أمره ؛ انتهى كل شيء لقوله تعالى : " مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا " .
فَيُمكن لهذا الاسم أن يكون سبب سعادتك الأبدية ، آمنت أنه يراقبك، فاِستحييت منه ، ولَزِمت أمره ؛ فَسَعِدت في الدنيا والآخرة . فقد يكون اسم الرقيب وحده سبب سعادة الدارين ؛ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "، فالمؤمن في بيته مُراقَبْ ، وفي عمله مُراقَبْ ، وهو يعالج المريض مُراقَبْ ، وهو يَرِفع مذكرة للقاضي مُراقَبْ ؛ وكلما اقترب من الله ؛ شَعَر بالعِتاب أحياناً ؛ فمثلاً أنت محامٍ أتقنت عملك ودافعْت عن هذا المُوكِّل دِفاعاً قوياً ، وراجَعت القوانين كلها ؛ عالجتَ هذا المريض معالجة مُتقنة أم أنك مستعجل ، ومشغول ولم تُدقق في حساسيته والأدوية التي أخذها ؛ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، تكلمت هذا الكلام فَهَل عرفت أبعاده ؟ فالإنسان كلما اِرتقى يَنشأ مع نفسه حساب دقيق . واللهِ الذي لا إله إلا هو لو أن الإنسان عرف الله حق المعرفة ، لَحاسَب نفسه حساباً عسيراً لأنه تعالى مُطَّلِع عليك .
يعني أقول لكم هذا ولو كان جزئياً ؛ إذا كان طبق فاكهة موضوعاً أمام جماعة من الناس أليس من تمام المراقبة أن تؤاثر أخاك وتجعل الحبَّة الكبيرة له لأنك تحت مراقبته في تفكيرك وحركتك ، لكنَّ الله تعالى لطيف ، أحياناً تمشي مع شخصٍ فَتَتَضايَق نفسك منه لكن الله معك دائماً دون أن يُزعِجك ، وهو معك بِلُطْفه فَمِن أسمائه اللطيف ، فهو معك في بيتك ، وعملك ، وسفرك ، وحضرك ، وفي خلوتك ، وجلوتك ، ومع زوجتك ، وأولادك، وعند كل كلام تقوله معك يراقبك لكنه لطيف .
الرقيب في حق الله ؛ هو الذي يعلم أحوالهم ويعد أنفاسهم ؛ وقيل: الحفيظ الذي لا يغفُل والحاضر الذي لا يغيب ؛ قد تملك معرفة بعض الأشخاص الأقوياء فَتَكون لديك أرقام هواتفهم وربما تقع في وقت حرِجٍ فإذا اِتصلت بِأحدهم يقال لك : سافر ، وذاك هاتفه مقطوع لأسباب مالية ، وأنت في أشد الحاجة إليه لكنك لو اِعتمدت على الله فهو دائماً معك في السرّاء والضرّاء ، قل : يا رب يقلْ لك : لبَّيْك يا عبدي لن تحتاج بهذا وصْلاً أو قَسَماً أو مذكرة ولا شهادة ، قال تعالى :
(سورة طه)
اعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك ؛ هذا مقام الإحسان فاسم الرقيب يرفعك إلى مقام الإحسان ، اِعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك والإنسان يستحي ؛ في كل أسرة من أُسَرِنا هناك كبير القوم متقدم في السن ومثقف أحياناً ، ذو وجاهة ومعتدل وحليم ، لو أن هذا الإنسان زارك في العيد ، كيف تستقبله أبِالقميص الداخلي ؟ والله هناك أشخاص لا يستقبلون الضيوف إلا باللِباس الرسمي ، يخجل حتى بِثياب البيت أن يستقبله ، كيف تحدثه وكيف تجلس معه ؟ من عِلْية القوم ، تجد أنك تراقب نفسك بالكلام ؛ وتنتقي أفضل الثياب ، وتجلس جلسة مؤدَّبة فيها توقير ، إذا كان كل هذا مع الإنسان فَكيف مع الواحد الديان ؟ فكلما اِرتقى مقام الإنسان دخل في حال المراقبة مع الله عز وجل ؛ فهو الحفيظ الذي لا يغفل والحاضر الذي لا يغيب ، العليم الذي لا يعْرَبُ عنه شيء من أحوال خلقه ، قال تعالى :
(سورة الحاقة)
الإنسان مكشوف ؛ إذْ لا يوجد شيء يمكنك أن تخفِيَه على الله -عز وجل - ، أما عن البشر فأنت تخفي عنهم ألف شيءٍ وشيء ، تخفي عنهم ألف شعور ، وألف فكرة ، وألف قضية ، وألف سر، تبقى صامتاً ولا يعلم أحدٌ شيئاً عنك أحياناً ، لكن تكلُّمك وصمتك عند الله سواء ، وبَوْحك وكِتمانك عند الله سواء ، إعلانك وإخفاؤك عند الله سواء لأنه رقيب .
وقيل : الرقيب ؛ هو الذي يرى أحوال العباد ويعلم أقوالهم ؛ وقيل: الذي يراقب عباده ، ويُحصي أعمالهم، ويحيط بِمَكنونات سرائرهم ، ولا يغيب عنه شيء . هذا من معاني اسم الرقيب ، والإنسان إذا تحقق من اسم الرقيب ، كان في حالٍ آخر، يستحي من الله- عز وجل- ، ( النبي عليه الصلاة والسلام اشتغل عنده عامل فاغتسل عنده عُرياناً ، خذ أَجَارتك لا حاجة لنا بك فإني أراك لا تستحيي من الله ) فالإنسان يحفظ عَورته من أن يراها أحد وقد قرأت في بعض الكتب (حتى ولو كان وحده ) فكلما ارتفع الإنسان شعر أن الله معه وشعر بِمراقبة الله له .
اسم الرقيب جاء في القرآن الكريم في ثلاثة مواطن : ففي فاتحة سورة النساء قال تعالى :
(سورة النساء)
واللهِ الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الآية، لَكَفَتْ . هذا الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : عظني ولا تُطِل فَتَلا عليه النبي هذه الآية :
(سورة الزلزلة)
هذا الأعرابي قال : كُفيتُ يا رسول الله ؛ أيْ هذه الآية تكفيني مدى الحياة ؛ فالنبي تعجّب وقال فَقُه الرجل أيْ : أصبح فقيهاً وما قال عليه الصلاة والسلام : فقِه لأن فقِه بمعنى عَرَف الحِكم أما فقُه بمعنى أصبح فقيهاً ، فأي شيء جعل هذا الأعرابي فقيهاً ، والله الذي لا إله إلا هو ، أكاد أقول : إن هذه الآية وحدها تجعل الإنسان فقيهاً : " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " هل تستطيع أن تكذب مع هذه الآية ؟ وهل تستطيع أن تُدلِّس ؟ وأن تغُشّ ؟ وأن تحتال ؟ وأن توهِم ؟ وهل تستطيع إيذاء الخلق؟ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، إذا كنت مراقباً من قِبَل مخلوق تجد أنك تتجنب كل ما يؤدي للهلاك فَكَيف إذا كنت مراقباً من قِبَل الخالق ؟ .
مقام المراقبة قد يصل بك إلى سعادة الدارين الدنيا والآخرة . الآية الثانية في سورة المائدة جاءت على لِسان سيدنا عيسى -عليه وعلى نبِيِّنا أفضل الصلاة والسلام- قال تعالى :
(سورة المائدة)
فهذه الآية الثانية ؛ والآية الثالثة : في سورة الأحزاب قال تعالى :
(سورة الأحزاب)
تُروى قصة مشهورة ذكرها الإمام الرازي : أن أحد الشيوخ كان له جمْع من التلاميذ ، وكان قد خصَّ واحداً منهم بالعناية الزائدة فَسَأله بقيةُ التلاميذ عن سبب ذلك من شدة غيرتهم من هذا التلميذ الصغير وقالوا له : لماذا تخصه بهذه العناية ؟ فقال سَأبيِّن لكم ذلك ؟ أعطى لِكل واحدٍ منهم طائراً وقال له : اذبح هذا الطائر حيث لا يراك أحد ؛ فمَضى كل واحدٍ منهم إلى جهةٍ ثم رجع إلى شيخه وقد ذبح الطائر ما عدا ذلك التلميذ الصغير فقد رجع إلى شيخه والطائر في يده ، وقال : أنت يا سيدي أمرتني أن أذبح الطائر حيث لا يراني أحد ولم أّجِد موضِعاً لم يرني الله فيه فالتفت الشيخ لِبقية التلاميذ وقال : مِن أجل هذا خصصته بِمزيدٍ من العناية
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى ؟ أما تختشي من عُتْبنا يوم جمْعِنا
أما آن أن تقلِع عن الذنب راجِعاً وتنظر ما به جاء وَعْدنا
فَيا خجلي منه إذا هو قال لي : أيا عبدنا ما قرأت كِتابنا ؟
فالمؤمن الصادق ؛ يرى أن الله معه ، ويُراقبه ، ويُحاسِبه فيَسْتحي منه ، المحبون لله -عز وجل -لهم أحوال مع الله لا تُوصف ، مناجاتهم له وتأدُّبهم معه فهناك من يتزيَّن قبل أن يُصلي لأنه سَيَقف -بين يدي -الله عز وجل -، أرى في بعض الأحيان أشخاصاً يصلون بالقميص الداخلي فهؤلاء لا يستحيون من الله حق الحياء ؛ يستحي أن يقابل إنساناً بِقميص داخلي فَكَيف يقابل الله -عز وجل -؟ فالأكمل أن ترتدي عباءة أو ثوباً فأنت بين يدي الله -عز وجل - فالعلماء قبل الآن كانوا يتزينون ويُرجِّلون شعورهم قبل أن يصلوا لأنهم سَيَقفون بين يدي الله -عز وجل - ، " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ولدينا دليل قوي ؛ قال تعالى :
(سورة الأعراف)
أنا لا أقول هذا انتقاداً لأحد ، لكنك تجده يأتي إلى المسجد بِأقَلّ ثياب عنده في حين أقل حفلة تجده يرتدي أجمل الثياب ، المسجد بيت الله ويوم الجمعة عيد وأنت ضيفه ، ومن السنة الاهتمام بهذا اليوم بهذا العيد .
يُروى أن عبد الله بن عمر مرَّ بِغلام يرعى غنماً فأشار لإحدى الشياه وقال : بِعني هذه الشاة يا غلام ، فأجاب الغلام : إنها ليست لي . فقال ابن عمر : قل لصاحب الغنم إن الذئب أكل واحدةً منها ، فقال الغلام : فأين الله ؟ أقول تعليقاً على هذه القصة : إن هذا الغلام الراعي وضع يده على جوْهر الدين ، ومسك جوهر الدين ولو أن ثقافته محدودة فهذا راعٍ وقد تجد إنساناً عنده مكتبة من أربعة جدران بحيث أنك تُذْهل وتقول : هذا عالم كبير فوا لله لو أكل دِرهماً حراماً فلا قيمة لكل هذا العلم ؛ وهذا البدوي الراعي الذي قال : أين الله ؟ نحن بِحاجة في هذه الأيام إلى أشخاص كهذا الراعي ، بِحاجة إلى وَرَع ، وإلى مسلم يقيم الإسلام حقيقةً ؛ إلى بيت مسلم، و زوج مسلم ، و زوجة مسلمة ، وأولاد مسلمين ، وإلى صدق ، وأمانة ، وإخلاص بدون غش ، ولا كذب ، ولا تدليس ، هذا النموذج وهو ساكت يُعدُّ أكبر داعية والذي يصيح في الناس صباحاً ومساءً يا أيها الناس اتقوا ربكم ؛ وهولا يتقي ربه ؛ هذا أكبر منفِّر ؛ فالإنسان المستقيم والملتزم والتقي ولو كان ساكتاً فهو أكبر داعية ؛ والفصيح المتكلّم ، والمتحدث اللَّبِق؛ والخطيب المُسقع ؛ إن لم يكن ورِعاً ، فهو أكبر منفِّر ؛ فالقضية عند الله في الصدق ، والإخلاص ، والتطبيق ؛ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، هل يمكن لمؤمن يعمل خبازاً أن يدخل لِدورة المياه ولا يُغسِّل يديه ؟ المؤمن لا يفعل هذا لأن العجين سيُصبح خطراً للناس ، الأمر الذي جعل المؤمن يتصرف هكذا هو الوازع الداخلي إن الله كان عليكم رقيب .
أذكر أنني ألقيت في هذا المسجد درساً حول الأمانة وقلت : ليس الأمين الذي يؤدي ما عليه إذا كان هناك إيصال ، أو سند ، أو شهود ، أو حساب ثابت ، فهذا سلوك مدني لأنه إذا لم يؤدِّ فالطرف الآخر أقوى منه لوجود السند ، ودعوى ، وقضاء ، وتشهير ، أما الأمين عند الله ؛ فهو الذي يؤدي ما عليه من دون أن يكون مُداناً في الأرض ؛ والله جاءتني ورقة وأنا في هذا المسجد قال لي صاحبها : والله يا أستاذ أديت عشرين مليون ليرة لِورثَةٍ وهم لا يعلمون عن هذا المبلغ شيئاً ، لأن الله رقيبٌ عليه ؛ هذا هو المؤمن ؛ مبلغ ضخم ، وهناك آباء كثيرون أموالهم في سرٍّ لا يُعلِمون بها أولادهم ولا أزواجهم ؛ فإذا مات فجأةً مات معه السِّر ؛ هناك أُناس كثيرون يُعانون من هذا يقولون : مات أبونا ولا نعلم عن أموال أبينا شيئاً ؛ فالذي معهم أموال هؤلاء إذا كانوا من الذين فقهوا قوله تعالى:
" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " سيأتون لهم بالمال ويقولون هذا مال أبيكم .
قال لي : والله يا أستاذ أدَّيت عشرين مليون ليرة لِورثَةٍ وهم لا يعلمون عن هذا المبلغ شيئاً ؛ هذا هو الإيمان، الإيمان يصنع المعجزات ، لو أننا شعرنا أن الله رقيبٌ علينا لاستقامت حالُنا جميعاً ؛ هل يستطيع سمان مؤمن إذا وقعت فأرة في صفيحة زيت أن يبيع الصفيحة ؟ لا يستطيع ! هل تستطيع أن تُخفيَ عَيْب بضاعتك ؟ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، هل يمكن أنْ تضع مادةً مُسرطنة لِغداء حتى ترفع ثمنها ؟ لا تستطيع ، وهل تستطيع أن تضع هرمونات لِنَبْتة كي تكبر حتى تكون كبيرة الحجم ويكون سعرها غالياً ؟ هذه مادة مسرطنة لا يمكن اِستعمالها إلا تهريباً ؛ لو آمنا بهذا الاسم لأُلغِيَ الغش من حياتنا جميعاً ؛ وهل يستطيع المحامي أن يقدِّم مذكرة للقاضي وهو يعلم أن مُوَكِّله كاذب ؟ لا يستطيع ،" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، وهل يستطيع أن يرى الطبيب من المرأة موضعاً غير الموضع الذي تتألم منه المريضة ؟ إن الله كان عليكم رقيب ، لقد رأيت أطباء ملتزمين يقومون بِوضع رداء فيه فتحة صغيرة على المريض كي يُشَخِّصوا موضع الألم فقط ، هل تستطيع وأنت كمؤمن إذا كنت في بيتك وحيداً ، وخرجت جارتك تنشر غسيلها بالشرفة المقابلة لك ، وهي بثياب متبذلة ، وهي في النور وأنت في الظل ولا يراك أحد ؛ هل تستطيع أن تنظر وأنت تتذكر قوله تعالى إن الله كان عليكم رقيباً .
أخ معنا يعمل في دائرة ؛ واسمحوا لي أن أذكر قِصَّته كان له فُسْحة مدتها ساعة أو أقل ، في آخر الشهر قدَّم إجازة بمدة ستة أيام لِرئيسه فقال : لقد استهلكت هذه الإجازة فقال : كيف ؟ قال : لأنني كنت أحضر كل يوم متأخراً تقريباً ساعة من الزمن فَجَمعت هذه الساعات فإذا هي بِمُعدَّل ستة أيام ؛ فاِندهش هذا الشخص من هذا النموذج وقال لي أخونا والله يا شيخ لما قَدِمت في الدرس القادم وجدته معي في درسك ، هذه هي التربية الراقية ؛ تقديم طلب إجازة جعل المدير العام يحضر مجلس علم ، هكذا الدين كلما كنت ورِعاً كلما اِزددت مراقبةً لله ، وأقول لكم مرة ثانية : يمكنك أن تكون أكبر داعية في الأرض وأنت ساكت ؛ وذلك بِأمانتك ؛ واِستقامتك وإتقان عملك .
هناك أطباء من إخواننا أجْروا عمليات معقدة جداً ، وله قِسم بِثمن مجاني ، وقِسم بِثمن باهظ ، أسمع عنهم أن عِنايتهم بالفقراء لا تقِل شعرة عن عنايتهم بالذي سَيَدفع مئتي ألف على العملية ، عنده الأمور مجانية وذلك لِفقر بعضهم ويَجري عملية السبْع أوثماني ساعات وهو واقف ويفتح القلب وغيرها من العمليات من دون مقابل وتلك بِمئتي ألف والعِناية واحدة ولإتقان واحد ؛ " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " ، وهل يمكن لِمدرس أن يترك التلاميذ من أجل قِلّة الأُجرة ؟ لا يمكن لذلك هذا الاسم يمكن أن يُطبّق في مليار حالة ، إذا آمنتم أن الله رقيب فسَيَنعدم الغش والكذب ولا نظرة حرام ، ولا ابتسامة ،ولا إساءة ...
العلماء يرون أن المرقبة حال يصير العبد فيه يذكر الله بِقلبه ؛ لأن الله مُطلّعٌ عليه دائماً ؛ وشعور العبد أن الله مُطلّعٌ عليه دائماً ؛ هذا الحال اسمه حال المراقبة .
سئل بعض القوم بمَ يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات ؟ فأنت إذا مشيت بالطريق بعض النساء يُبرزن أحسن ما في أجسامهن وتراهنّ عاريات من الطراز الأول ، فكيف تغض بصرك ؟ قال : لِعلْمه أن رؤية الحق تعالى سابقة على نظره ؛ علمك أن الله يراقبك هذا أسبق من نظرك إلى الحرام ؛ فبِهذا تغض بصرك وتستحي من الله، وكثير من الإخوان لا يجتمعون مع امرأة في مصعد واحد ، وينتظر للمرة الثانية أو يصعد الدرج ماشياً لأن المؤمن عفيف إن الله كان عليكم رقيباً .
الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك . والله سبحانه وتعالى يقول :
(سورة العلق)
ذكر الإمام الرازي أن حظ المؤمن من اسم الرقيب ، المقولة القائلة " تخلقوا بأخلاق الله " ، فَكَيف نتخلق بِهذا الاسم ؟ يقول : مراقبة العبد لنفسه أساسها أن يعلم أن الله مطلع على نواياه ودخائل قلبه ، وأن يستحضر من مراقبة الله له أن الله تعالى معه دائماً ، ويرْقبه في كل أحواله وحركاته وسكناته وقال : هذه المراقبة مفتاح كل خير ، لأن العبد إذا أيقن أن الحق مراقِب لأفعاله ، مبصر لأحواله ، وسامع لأقواله ، مطلع على ضمائره وخفاياه ، خاف عقابه في كل حال ، وهابه في كل مجال ،عِلماً منه بأن الرقيب قريب ، وهو الشاهد الذي لا يغيب ، ولذلك قال الشيخ : إن الرقيب الذي هو من الأسرار قريب ، وعند الاضطرار مجيب .
وقال بعضهم : الرقيب : هو المُطلّع على الضمائر ، والشاهد على السرائر ، والرقيب يعلم ويرى ، ولا يخفى عليه السر والنجوى .
وقال بعضهم : الرقيب : الحاضر الذي لا يغيب ، بل رقابتُه قديمة مستمرة . ولهذا قيل : الرقيب الذي يسبق علمه جميع المحدثات وتتقدم رؤيته جميع المكونات .
الإمام الغزالي في إحيائه حينما عقد بحثاً حول مقام المراقبة قال : إن أدب المؤمن مع الله الرقيب ؛ أن يعلم أن الله رقيبه وشاهده في كل شيء ، ويعلم أنّ نفسه عدوة له ، وكذلك الشيطان اللعين ، وهما ينتهِزان منه كل فُرصة حتى يحملاه على الغفلة والمخالفة ؛ لذلك يجب أن يأخذ حذره منهما ، ويسد عليهما المنافذ والمداخل ، حتى لا يقع في فخِّ واحدٍ منهما " ، هذا هو رأي الإمام الغزالي في أدب المؤمن مع الله في اسم الرقيب .
ومن أدب المؤمن في هذا المجال أن يراقب نفسه وحِسه وأن يترقّب أنفاسه ويجعل عمله خالصاً لِربه بِنِيَّة طاهرة في أعماله ويراقب ربه في أخيه فلا يُظهر عَيْبه .
ويقول ابن عطاء الله السكندري عن اسم الرقيب : أفضل الطاعات مراقبة الله على الدوام وفي كل الأوقات .
وقال أبو حفصِ : إذا جلستَ للناس فكُن واعظاً لِنفسك وقلبك ولا يغرنَّك اجتماعهم عليك ؛ فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك .
قال عبد الله بن المبارك لِرَجل : راقب الله -تعالى -فقال : كيف ذلك ؟ قال: كن أبداً كأنك ترى الله -تعالى - فالدعاء النبوي الشريف يقول (اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك )، وبعضهم كان يدعو بِهذا الدعاء : إلهي أنت الرقيب لِحركات الأكوان ، العليم بِخطوات قلوب الإنس والجان ، أشرِقْ على قلبي بنور اسمك الرقيب، حتى تتزكى نفسي فَتَتَحلى بالتقريب ، واِمنحني عيوناً تراقب نِعَمك الظاهرة ، وتلاحظ أسرارك الباهرة .
فَحَال المراقبة حال إذا وصلت إليه ، أوْصلك إلى الجنة ، وسعِدت في الدنيا والآخرة لأن من لوازم هذا الحال الاستقامة على أمره والاستقامة على أمر الله سبب الجنة . والحمد لله رب العالمين