استغلالها التقنيات الحديثة و أهم عوامل الإنتاج المتاحة آنذاك مما يفسرأنها كانت تحقق أكثر من 65% من الإنتاج الفلاحي الذي كان يخدم الاقتصاد الفرنسي بالدرجة الأولى، وذلك عكس القطاع الفلاحي التقليدي الذي كان تابعا للجزائريين الذين فرض عليهم استغلال المناطق الوعرة والجبلية بالوسائل البدائية والتقليدية بإنتاج كان لا يكفي حتى لتغطية الاستهلاك الذاتي فتقلصت معه مصادر التراكم بالنسبة للجزائريين.
أما بالنسبة للقطاع الحرفي فقد ترجع دوره في المجال الصناعي لصالح الوحدات الصناعية التي ظهرت للوجود في الجزائر خاصة بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت تابعة في إجمالها للمعمرين أو للمؤسسات الفرنسية الكبيرة في شكل فروعا لها في الجزائر، وذلك بفضل التسهيلات التي كانت تقدمها السلطات الفرنسية آنذاك للمعمرين من أجل الاستثمار في الجزائر، فكان ذلك على حساب القاعدة الصناعية التي كانت تابعة للجزائريين والتي كانت تتشكل في أغلبها من الحرف والوحدات البسيطة التي تعتمد على التقنيات والوسائل التقليدية، فعلى سبيل المثال أنتقل عدد هذه الوحدات من 100000 وحدة كانت موجودة في منتصف القرن 19 إلى أقل من 35000 وحدة عام 1951، فأمام هذا التحول ظهر للوجود في الجزائر قطاعين صناعيين أحدهما تقليدي يملكه الجزائريون وأخر حديث ومتطور يعود للمعمرين الخواص أو لبعض فروع الشركات الفرنسية التي أخذت توسع من تدخلها في مجال مختلف فروع الصناعة خاصة الإستخراجية منها .
ب ) السياسة الاقتصادية للاستعمار في الجزائر:
لم تكن الجزائر طيلة الاحتلال الفرنسي لها سوى مكانا لنهب الموارد الاقتصادية وتحويلها إلى البلد الأم ومن هذا المنطلق فقد كانت كل الإنجازات التي تم تحقيقها في الجزائر خلال فترة الاستعمار تهدف لتحقيق هذا الغرض، فقد ارتكزت السياسة الاقتصادية للاستعمار على إقامة صناعة إستخراجية وتحويلية خفيفة، وزراعة تتميز بازدواجية ظاهرة،
موجهة بشكل عام نحو التصدير، دون أن تراعي في ذلك مصلحة السكان من أهل البلاد أو المعمرين أنفسهم.
وبدءا من 1940 أخذت فرنسا تفكر في إقامة بعض المشاريع التي من شأنها أن تزيد من ارتباط الجزائر بالاقتصاد الفرنسي، وهكذا بدأت البرامج الاستثمارية بالظهور على شكل ميزانيات إنمائية، ففي 1940 وضع برنامج استثماري خاص وصلت مخصصاته 131 مليار فرنك قديم يهدف إلى إنجاز بعض المشاريع خاصة في مجال البناء (42%) والمناجم (30%) و الزراعة ( 23%) وذلك على حساب القطاعات الأخرى خاصة الصناعة التي لم تستفيد إلا من 1% من إجمالي المبالغ المرصودة، وبشكل عام فقد كان هذا البرنامج يخدم المصالح الفرنسية بالدرجة الأولى . وقد كان البرنامج الثاني مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية محاولة منها التخفيف من الضغط المفروض عليها من قبل الشعب وكان ذلك عام 1948، من بين أهدافه تأمين حاجيات السكان المحليين بالدرجة الأولى، غير أن هذا البرنامج الذي كان يشمل كافة البلدان الخاضعة للاحتلال الفرنسي لم يعمل به ليحل محله برنامج أخر عرف بالمشروع الثاني (( لتجهيز ما وراء البحر)) وذلك عام 1954 وقد كان موجها أساسا إلى القطاع المنجمي و القطاع العسكري على الخصوص. وتدعم هذا المجهود الاستثماري الذي أقدمت عليه السلطات الفرنسية خدمة لمصالحها بالزيادة المعتبرة لفروع الشركات الفرنسية المتواجدة بالجزائر حيث تجاوز عددها ستة 1954 أكثر من 10000 شركة، لكن مع اندلاع الحرب التحريرية فقد عرف هذا تراجعا كبيرا فقد انخفض عدد الشركات المحدثة من 1315 عام 1947 إلى أقل من 317 شركة عام 1954 ثم أصبحت شبه معدومة خلال سنوات الحرب، مع ارتفاع النفقات العسكرية من 114 مليار فرنك قديم سنة 1954 إلى أكثر من 612 مليار فرنك ق سنة 1961 .
وفي غمار هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب وتحت تأثير الثورة التحريرية عملت السلطات الفرنسية على التخفيف من هذا الضغط بانتهاج سياسة جديدة مع نهاية
الخمسينات ترمي من ورائها عزل الشعب عن الثورة بوضع برنامج تنموي استعجالي لصالح السكان الجزائريين للتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية عرف هذا البرنامج بخطة قسنطينة PLAN DE CONSTANTINE.
* مشروع خطة قسنطينة :PLAN DE CONSTANTINE
يمتاز هذا البرنامج عمّا سبقه من البرامج في كونه يعدّ أول برنامج إقتصادي - إجتماعي يغطي " الآفاق الشاملة الخاصة بعملية النمو " لمدى عشر سنوات مقسمة إلى مرحلتين خماسيتين، تتضمن سياسة إقتصادية جديدة ترتكز على ثلاثة محاور أساسية هي :
* السياسة الزراعية * السياسة الصناعية * السياسة النفطية
عملت السلطات الفرنسية على هذه السياسات ( ظاهريا ) قاعدة الإنطلاق في عملية إخراج البلاد من حالة التخلف التي تعيشها والحاقها بأوروبا المتقدمة بالإعتماد في ذلك على التصنيع من أجل الزيادة في معدل النمو بمقدار 14 % سنويا، و التوزيع العادل لأرباح التقدم الإقتصادي، فنقرأ في التقرير العام لهذا المشروع ما يلي:
" إن التطور الصناعي بالمعنى الواسع، يضم البناء والأشغال العمومية، ينتظر منه أن يدفع بالإقتصاد الجزائري نحو الأمام .... فالصناعة وحدها بمساعدة الخدمات تتمكن من إحداث مناصب شغل جديدة للجزائريين .... يجب أيضا العمل على تغيير طبيعة الزراعة وذلك بتطويرها خاصة التي تمد الصناعة بالمواد الأولية من أجل تغطية الحاجات المتزايدة لسكان الجزائر ".
وبالعودة إلى بنية الإستثمارات حسب ما تضمنته خطة قسنطينة يتضح لنا جليا الإهتمام الذي أردت السلطات الفرنسية إبرازه من السياسات الإقتصادية التي إنتهجتها.
أولا : السياسة الزراعية : أمام التدهور الكبير الذي عرفه القطاع الزراعي، عمدت السلطات الفرنسية في إطار مشروع قسنطينة إتباع سياسة زراعية ( إصلاح زراعي سريع ) ذات أهمية من الناحية الإقتصادية، فإرتكزت على إستصلاح مساحة 250 ألف هكتار وتوزيعها على الفلاحين الجزائريين غير المالكين لإستغلالها. ورغم أنه تم جمع أكثر من 201 ألف هكتار سنة 1961 فإن ماتم إستصلاحه وتوزيعه لم يتعدى 28 ألف هكتار وهو ما يظهر فشل سياسة الإصلاح التي تأثرت بالمشاكل الإدارية و السياسية فكانت النتائج ضئيلة .
ثانيا السياسة الصناعية : نظرا للتأخر الذي كان يميز الصناعة الجزائرية حاولت فرنسا من خلال هذا البرنامج وضع سياسة صناعية من شأنها النهوض بالصناعات المختلفة التي تخدم بالدرجة الأولى الإقتصاد الفرنسي، فكان الإهتمام موجه هنا إلى الصناعات التي تختص بتحويل المواد الزراعية والصناعة الميكانيكية والكهربائية والنسيج بتشجيع إقامة الوحدات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، وقد إكتمل هذا الإتجاه ببرمجة المشاريع الكبرى الموجهة أساسا للتصدير من بينها مشروع الحديد والصلب في عنابة ومصنع تمييع الغاز ومركب البتروكمياء المبرمجين بمدينة أرزيو.ويبقى الهدف الرئيسي المنتظر بلوغه من وراء البرنامج الإستثماري في الميدان الصناعي هو تحقيق إنشاء أكثر من 400 ألف منصب شغل طوال المرحلة خاصة في المدن قصد إمتصاص البطالة الموجودة، مع تحقيق ذلك دون الضررة بالمصالح الفرنسية ولكن بالرغم من الأهداف المعلنة فإن السياسة الصناعية التي إعتمدتها فرنسا لم تحقق نتائج كبيرة لصالح الإقتصاد الجزائري بل عملت على ربطه أكثر بالإقتصاد الفرنسي من حيث الإعتماد الكلي على الصناعات التي تمد الإقتصاد الفرنسي بالمواد الأولية،
ثالثا: السياسة النفطية : لقد كان لأكتشاف البترول والغاز في الجزائر أثرا كبيرا على التوحه العام للسياسة الإقتصادية التي تتبعها فرنسا في الجزائر خاصة في نهاية الخمسينيات، فقد عملت السلطات الفرنسية على تدعيم تحقيق فرنسا إستقلالها في الطاقة معتمدة في ذلك على الجزائر واتضح ذلك جليا من خلال تطور وتيرة الإستثمارات التي تمت في هذا القطاع على حساب القطاعات الأخرى حسب ما يوضحه الجدول الثالث الذي يقدم لنا صورة عن حجم الإستثمارات التي تمت بين 1952 و1962 في مجال الأبحاث و النقل .
وقد أسهمت هذه الإستثمارات من رفع الإنتاج من البترول في الجزائر بصورة ملفتة للإنتباه وتعبر عن سياسة الإستغلال الفاحش للثروات الباطنية للجزائر من قبل المستعمر، فنلاحظ من الجدول الرابع الموالي كيف تطور الإنتاج من البترول بين سنة 1957 و 1962
بالرغم من أن قطاع المحروقات قد إستفد من إهتمام السلطات الفرنسية به من خلال المبالغ المالية المرصدة له في إطار السياسة النفطية التي رسمت من أجل النهوض به خدمة للإقتصاد الفرنسي، فإنه لا يؤثر بشكا واضح على الإقتصاد الجزائري، فتراكم رأس المال في هذا القطاع ورغم ما حققه من نمو إقتصادي يبقى في خدة الإقتصاد العالمي كونه كان موجها أساسا للتصدير .
ج) نتائج السياسة الإقتصادية للمستعمر
من خلال ما تقدم يمكن إستخلاص أهم النتائج التي تحققت على ضوء السياسة الإقتصادية المعتمدة في الجزائر خلال الفترة الإستعمارية .
لم تكن السياسة التي اعتمدتها فرنسا في الجزائر بمثابة سياسة إقتصادية رامية إلى إحداث التغير في أسس تراكم رأس المال، من خلال تحسين النمو الصناعي والزراعي بل هي سياسة إقتصادية للضبط السياسي، أدت في مجملها إلى الرفع من درجة الإدماج المتزايد للإقتصاد الجزائري في الإقتصاد الفرنسي، مما زادت معه التبعية في مختلف المجالات للإقتصاد الفرنسي، وأهم مظاهر هذا الفشل هو التوزيع غير العادل للدخل فبين يتحصل مليون أوربي على 40% من الدخل نجد 9 ملايين من الجزائريين يتحصلون على 60% منه، كما أن الوحدات التي أنشأت قد حصرت نشاطها في عمليات تجميع المنتجات الوسيطية المستوردة مما أضعف من نسبة القيمة المضافة في النشاط الصناعي في الجزائر وزادت معه نسبة الواردات من هذه السلع، وأيضا هجرة رؤوس الأموال نحو الخارج. إن مختلف هذه المظاهر وغيرها كان لها تأثيرا واضحا على الإقتصاد الجزائري خاصة بعد الإستقلال ما سيتضح لنا من خلال القسم الثاني من دراستنا .