المحاضرة رقم "91" : اسم الله : "المُدبّر"
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
أيّها الإخوة المؤمنون ؛ مع الاسم الواحد والتسعين من أسماء الله الحُسنى والاسم هو اسم المدبّر ، والمدبر هو أحد أسماء الله الحُسنى، وهو زائد عن الأسماء التِّسعة والتسعين المعروفة والتي وردت في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المدبر: اسم فاعل من التدبير و التدبير مصدر وفي اللغة التدبير مأخوذ من لفظ الدُّبر ؛ لأنه نظر في عواقب الأمور ؛ تدبَّر الأمر أيْ نظر في عواقبه ؛ العاقل يتدبر الأمر وينظر في عواقب الأمور ؛ قد تُعجِبه امرأة حسناء رقيق دينها فتجده يرفض هذا الزواج ! لماذا ؟ لأنه تدبر عاقبة الأمر فهي أم أولاده مستقبلاً وسَتُربيهم تربيَةً فاسدة وسَيَخْجلون بِأمهم إذا كَبِروا ، فَتَدَبُّر الأمر : هو النظر في عواقبه .
قد يذهب الإنسان إلى بلدٍ غربيٍّ ويجد بحْبوحَة كبيرة : جمال طبيعي ما بعده جمال ورخاء في المواد والأسعار ، ورُخْصٌ في المركبات وبيوت فخمة جداً ، فَطَبيعة الحياة تُغريه أن يذهب إلى هناك ويستقر فيه، فالعاقل يتدبر عاقِبة هذا الأمر ، سوف يكبر أبناؤه هناك ، وسوف ينشؤون نشأةً لا تُرضي الله ، وسَيَجِد مع ابنته صديقاً فماذا يفعل ؟ وماذا يفعل إذا كبر أبناؤه في مجتمعٍ فاسِدٍ وسيِّىء ولا حرج على أحدهم أن يمارس الزنى فالأمر سهل كَشَرْبة الماء ؟ فإذا أردت تنفيد أمْرٍ تدبَّر عاقبته .
قد يسافر الإنسان فما عاقبة هذا السفر ؟ وقد يعملعملاً ما فما عاقِبة هذا العمل ؟ وقد يقبِض المال الحرام فما عاقِبة هذا المال ؟ وقد يتزوج هذه المرأة اللعوب فما عاقبة ذلك ؟ فالتدبر هو التفكر في عواقب الأمور ، والتفكر في نتائجِها ، فالمؤمن لا يقبل على أمر حتى يتدبَّر عاقِبته، فهناك أناسٌ كثيرون يُغْريهم العمل بِما يُخالِف القوانين فيربحون ثم يخسرون كل شيء ولو أنهم تدبَّروا عاقِبة الأمور لَمَا فعلوا ذلك ، و لما وقعوا في سوء أفعالهم .
أمثلة كثيرة ؛ فَلَو أن الإنسان رفض أن يتعلم فإذا تدبر عاقِبة هذا الأمر ورأى نفسه جاهِلاً تائهاً وشارِداً وضعيف الشأن في المجتمع لما أحجم عن التعلم . فالإنسان العاقل هو الذي يفكر في عاقبة الشيء قبل أن يصل إليه فهو يخاف بِعقله ؛ والإنسان الأقل عقْلانيةً أو الضعيف العقل أو الذي يُعطِّل عقله فهو يخاف بِعيْنِه ، وهذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان ؛ فالإنسان يخاف بِعقلِه والحيوان يخاف بِعَيْنِه ، فالذي يُدَخِّن لا يُقْلِع عن التدخين حتى يُصاب بِمَرَضٍ عُضال فعند فحص العينة بالمخبر ويأتي الجواب مرض خبيث بِالوَرم ، بِسبب الدخان عِندئذٍ يُقْلِع عن التدخين ، أما العاقِل فيعرف عاقبة التدخين قبل أن يصل إليها، فالعقل يريك النتيجة قبل أن تصل إليها ، وتصِل إليها بِعَقْلِك قبل أن تصل إليها بِجِسْمِك ، فإذا كان هناك طريق مغلق بعد خمسة كيلو مترات فهل تُكْمِل المسير ؟ فالذي يتحرك بِعَيْنِه يقول الطريق سالم ويسير فإذا به بعد قليل يجد الطريق محفورًا ومغلقًا ، فلو قرأت اللوحة لَوَصَلْت إلى هذه النتيجة بيسر و أرحت نفسك ، فاللوحة تعطيك النتيجة قبل المجازفة ، فهذا هو العاقل . أما غير العاقل فإنه يقرأ اللوحة ويكمل سَيْرَه لِأنه يرى الطريق سالِمًا إلى أن يجد الحفر فيقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود راغمًا ، فإذا تحركتَ بِحواسك الخمس فأنت دون مستوى البشر أما إذا تحركت بِعَقْلِك ووصَلت إلى النتائِج مسبقًا فأنت عاقِل حقًّا .
إنسان ذهب إلى بلَدٍ وزلَّت قدمه فَعانى من مرضٍ جِنسي عشرين عاماً وهو يتمزَّق كي يُخْفِيَه عن أولاده وزوجَتِه وكيف يُعالِجه ؛ فهذا لو تدبَّر الأمر قبل أن يفعله لما فعله فهذا هو التدبر ؛ التفكر في عواقِب الأمور والتفكر في نتائجِها ومُؤداها وعقابها ، أحياناً يكون الإنسان في أوْجِ شبابه يعيش لحظته يأكل ويشرب ويستمتِع ولا يتعلَّم ولا ينضَبِط ولا يسأل عن شيء فإذا تقدَّمت به السِّنّ يجد نفسه بعيداً عن مراتب البطولة وفي مُؤَخِّرة الرَّكْب وفي الدرجة الدنيا في المجتمع فهذا عطّل عقلهولم يفكر، وتجد آخر يفكر ويتروّى ويبني مستقبله لبنةً لَبِنَة ويجعل لنفسه بِدايَةً مُحْرِقة فتكون له نِهايَة مشرِقة .
التدبر هو النظر في عواقب الأمور وأدبارِها ، والتدبير هو أن يحسن المرء التدبُّر والتفكُّر ، وهو النظر في عاقِبة الأمر ، أو ما يؤول إليه وعاقِبتُه أيْ مؤداه ومنتهاه والتدبر قريب من التفكر ، أما الدَّبْر فهو النَّحْل والزنابير سِلاحها في أدبارها ، وقيل سُمِّيَت دَبُراً لِتدبيرها وتألقها في العمل العجيب ، ومنه بِناء بيوتها فلذلك سُمِّيَت بِهذا الاسم هذا في اللغة ، فإذا قلنا: الله جل جلاله مُدَبِّر كان لدينا معنى آخر قال تعالى :
(سورة يونس)
فما معنى يُدبِّر الأمر؟
آية ثانية : قال تعالى :
(سورة يونس)
قال ومن يدبر الأمر .
آية ثالثة : قوله تعالى :
(سورة الرعد)
وقال تعالى في سورة السجدة :
(سورة السجدة)
ففي هذه الآيات القرآنية ورد قوله تعالى "يدبِّر الأمر" فهو المدبِّر ، هنا التدبير إذا عُزِيَ إلى الله عز وجل كان له معنىً آخر ؛ قال : هو التوفيق بين أوائل الأمور وبين عواقِبِها ، فإذا طلب المرء الزواج فالزواج يبدأ بِنِيَّة ؛ فهذا نوى أن يتزوَّج فمن الذي يُيَسِّر له البيت والزوجة الصالحة وأن يملك المهر والمال كي يُؤَسِّس بيتًا يضمهما وأن يقتَرِن بِهذه المرأة وأن يُنْجِب منها أولاداً صالحين ، وبعد حين يجد نفسه في بيت يزدان بزوجة وأولاد ، وغدا ذا مكانة في المجتمع ، وقد كان بِالأمسِ شاباً لا يملك من حُطام الدنيا شيئاً ، فَمَنْ دَبَّرَ أمره ؟ ومن أوْصَلَه من مُبتدأ رغْبَتِه بِالزواج إلى نِهاية المطاف ؟ هو الله عز وجل .
وذاك أراد أن يُتاجِر فمن يسَّر له رأس المال والمحل والرُّخص وشِراء البِضاعة والبَيْع والرِّبْح وتأمين الحاجات فمن يدبِّر الأمر ؟ هو الله تعالى وهذه كلمة واسِعة جداً ، وأنت تنام وتذهب إلى فِراشِك فمن يُحَرِّك الأرض حول ذاتها من أجل أن يُشْرِق الصباح ؟ هو الله سبحانه ومن الذي يجعلها على خط سَيْرِها حول الشمس ؟ هو الله سبحانه ، ومن الذي يُنزِل من السماء ماءً فيُحْيي به الأرض بعد مَوْتِها ؟ هو الله سبحانه . وأنت ما عليك إلا أن تُلْقي حبَّة في الأرض فهذه الحبّة من الذي أعطاها شروط النمو ومن الذي أودع فيها هذه القوة ؟ حبَّةٌ صغيرة تُصْبِح بعد حين شجرةً كبيرة فمن نَمَّى هذه الحبة ومن الذي جعل لها سُوَيْقاً وجُذَيْراً وكذلك الرُّشَيْم ؟ هو الله سبحانه ، فهو يُدبِّر الأمر في النبات والحيوان والإنسان فإذا تمَّ اللقاء بين الزوجين خرج حُوَيْصل وتم لِقاح في البُويضة وما عليك بعد ذلك من شيء ، فأنت في حالك وزوجتك في حالِها ، إن الله هو الخالق للنطفة والمدبِّر لها ثم يخرجه طفلاً .
فكيف لقّحت هذه البُوَيْضة وكيف انقسمت وكيف سارت إلى الرحم وكيف انغرست في جِدار الرّحم وكيف جاء الدم الكثيف وكيف نمت هذه البويضة فأصبحت على شكل ورقة ثم كيف اتّضح الدِّماغ والجِذع وكيف نبتت الأطراف وبعد تِسْعَة أشهر تجد طِفلاً كامِل الخلق ؛ رأسٌ وجُمْجُمَة وبصر وأعصاب حِسٍّ وأعصاب حركةٍ وعضلات وعِظام وجِهاز هضم وجِهاز تنفَّس وجِهاز دوران وإفراز وغدّة صماء وغدّة درقية وغدة نخامية وغدة البِنكِرياس ؛ في تسعة أشهر وعشرة أيام من حُوَيْصِل لا يُرى بِالعَين إلى طِفلٍ كامل الخلق ، فمن يُدبِّر الأمر ؟ يدبِّر الأمر يعني يوصِل المقدِّمات إلى النتائج فالمقدِّمات حُوَيْصِل والنتائج طِفل ، المقدِّمات رغبة في الزواج والنتائج زوجة وأولاد وبيت ، المقدِّمات مشروع تِجاري والنتائج تِجارة رابِحة ؛ يدبِّر الأمر ، إنه الله .
قالوا : التدبير إذا عُزِيَ إلى الله عز وجل هو التوفيق بين أوائل الأمور ومبادِئها وأدبارها وعواقِبِها ؛ فالطِفل في بطن أمِّه مُعَرَّض إلى أخطار كبيرة وكثيرة ، فإذا به يولد سليماً ومُعافىً ، فمن دبَّر أمره ؟ هو الله جل جلاله والمقدّمات يجعلها الله تؤدي ما يجب من الغايات .
شيء آخر وهو أنه يُدبِّر الأمر أيْ يهدي عِباده إلى ما أرادهم لهم فهذا تدبير روحي ؛ يُدَبِّر أمرهم في إمدادهم بِما يحتاجون بالهواء والماء والطعام والشراب والحاجات والمعادن وما إلى ذلك فهذا تدبير عيشي ،لكنه أيضًا يُدبِّر أمْرَهم الروحي بِإيصالهم إليه ، أحيانيبعث إليه من ينصحه وأحياناً يبعث إليه من يضغط عليه ويسوق له شِدّةً ويُخيفه ويُريه مناماً مُزْعِجا و يجْمَعُهُ الله مع إنسانٍ طيِّب ويرزقه رِزْقاً وافِياً كي يستحيي ويُقتِّر عليه في الرزق ويحيطه بِخَوْفٍ شديد ويطمئِنه ، ويُمرِضُه أحيانًا ثم يشفيه ؛ فمن الذي يُدبِّر أمره حتى يصِل إليه هو الله .
والحقيقة أن أدق المعاني وهو أن الله يُدَبِّر أمر عِباده أيْ يهديهم إليه ، فأحياناً تجد إنساناً أشرك بالله ، وهذا الذي أشرك به يُلْهِمُه أن يتخلى عنه تأديباً لِمن أشرك بالله فمن الذي لقَّن هذا الإنسان المشرك درساً قاسِياً ؟ هو الله عز وجل ، فهو تعالى يُدبِّر الأمر ؛ يعطي هذا مالاً ، وذاك عِلماً، فالأول ينفعه المال فيعطيه المال ، وذاك ينفعه العلم فيعطيه العلم ، وهذا ينفعه الذكاء فيعطيه الذكاء ، وذاك يضره المال يجعله فقيراً ، إنّ من عِبادي من إذا أغْنَيْتُه أفْسَدت عليه دينه وإن منهم من إن أفْقَرته أفسدت عليه دينه ؛ من يُدَبِّر الأمر؟ ومن الذي يعطي الإنسان الشيء المناسب في الوقت المناسب بِالكم المناسب وفي المناسبة المناسبة ؟ هو الله جل جلاله .
هناك شيء دقيق بالنسبة لمفهوم المدبِّر ، وهو أن الله عز وجل لِماذا خلَقَنا ؟ خلقنا لِنَعرفه ونسعد بِقُرْبِه ، فكل أفعال الله هي سَوْق العباد لهذا الهدف ، مدبِّرٌ أي يسوقهم من بِداياتهم إلى الغايات التي أرادها لهم ؛ هذا معنى المدبِّر .
هناك بعض الكلمات يقولها بعض الإخوة لها معنى لطيف : توكَّل دَبِّر أو لا تُدّبِّر واستسلم لله عز وجل فهو المدبِّر . وهو الذي يُدبِّر أمور عِباده ، والحقيقة أن الوحي الذي جاءنا من السماء هو من التدبير وإرسال الرسل من التدبير وإلهام الدعاة إلى الله لإيصال الحق إلى الناس هو من التدبير وأن تجِفَّ السماء من التدبير وأن تنهمر أمطارٌ غزيرة من التدبير ؛ يدبِّر الأمر ثم قال تعالى : " يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ "
(سورة السجدة)
ويقول الله عز وجل في خِتام هذه الآيات : " أفلا تذكّرون " أي أتجهلون أن هذا هو الحق المبين ؟ .
قال بعضهم في معنى قوله تعالى :
(سورة الحديد : الآية 4)
أي توحَّد بِجلال ، بالكِبرياء ، في وصف الملكوت ، كما قال الإمام مالك: الاستِواء معلوم والكيف مجهول ؛ هذا لا نعلمه إلا أن الذي نعلمه هو أنه استوى على العرش ، أحياناً كل شيءٍ جاهز وما علينا إلا الضغط على مفتاح التشغيل وتتحرك كل الأمور ، فهذا تصميم وتشغيل وتهيِئَة وفِعْل ، فمعنى استوى على العرش : يُدَبِّر الأمر .
أيضاً يُدَبِّر الأمر أي أن كل الحوادِث تصدر عن تقديره وحاصِلةٌ بِتَدْبيره ، وهذا شيء أساسي في التوحيد ، وهو أن كل شيء وقع في الكون أراده الله ولا يقع حادِث إلا بِأمر الله ومشيئته لأنه المدبِّر .
هناك معنىً إضافي وهو أن الله هو المحدِث فلا يقع حادِث إلا بِأمر الله أما المدبِّر يسوق الحوادِث إلى أهدافِها الصحيحة ، أحياناً تجد حركة عشْوائيَّة دون هدف ، فَلُعَبُ السيارات الكهربائية تمشي دون هدف أما الإنسان إذا أقلع بِسيارتِه هناك هدف يريد أن يصل إليه ، فالحركةُ تعني أنّ الله هو المحدِث . أما إذا قلنا : المدبِّر يعني هذه الأحداث تَتَّجِه كلها إلى غاياتٍ رسمها الله لها ، أحياناً تجد اهتِماماً بليغاً من الأب لِدفْع ابنه إلى الدراسة فَتَجِده يُكافِئه مرةً ويُؤَنِّبه أخرى ويدفع له ما يشاء من أجل تحصيل القمة في الدراسة فكل هذه الأفعال المختلِفة الصادرة من الأب وذات الهدف الواحد هي من أجل تحصيل مستوى في الدراسة .
فالتدبير له معنى بلوغ الهدف . أما المحدِث فله معنى الحركة فالحادِث له محدِث هو الله عز وجل أما المدبِّر هو أن يُساق هذا الحادِث لِما خُلِق له ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام :
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا قَدْ عُلِمَ وَقَالَ وَكِيعٌ إِلا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ قَالُوا أَفَلا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ *
(رواه الترمذي)
كل إنسان خُلِق للجنّة فهو مُيَسَّرٌ لها فإما أن يأتِيَها طائعاً وإما أن يُساق إليها بِالسلاسِل قال عليه الصلاة والسلام :
عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ اسْتَضْحَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَضْحَكَكَ قَالَ قَوْمٌ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ مُقَرَّنِينَ فِي السَّلاسِلِ *
(رواه أحمد)
" عجِب ربكم إلى قومٍ يُساقون إلى الجنة بالسلاسل " إما أن تأْتِيَها طائِعاً مُبادِراً وإما أن يسوقك الله إليها بِالسلاسل بِالامتِحانات والتأديبات والشدائِد.
قال بعض العلماء : " المُدبِّر : لا شريك له تعبُدُه ، وما قضى فما أحدٌ يَرُدّه وما من شفيعٍ إلا من بعدِ إذنه ، وهو الذي ينطِق من يخاطِبه ، وهو الذي يخلق ما يشاء على ما يشاء إذا التَمَس يُطالِبُه " ، هذا من معاني المدبِّر قال تعالى : " ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ " .
وفي سورة يونس عليه السلام :
(سورة يونس)
أحياناً تأتي موْجة حرٍّ في الربيع فهناك بعض النباتات لا تنضج إلا بِهذا الحر فمن المدبِّر ؟ هو الله جل جلاله ، ذهبنا مرةً إلى بلدةٍ في محافظة القنيْطِرة ووجدت أنواعاً من الدِّيدان لا تعدّ ولا تحصى وغير معقول عددها فسألت فقيل لي : هذا العام لم يأتِ ثلج كافٍ فَحِينما ينزل الثلج بشكل كاف تموت الديدان هناك تدبير إلهي ، وَحِينما يداهم الحر هناك تدبير إلهي ، وحينما تأتي الرياح هناك تدبير إلهي ، وأحياناً لا بد من تلقيح النباتات فتأتي الرياح اللواقِح ، فالحرّ له وظيفة في إنضاج الثمار ، وهناك بردٌ له وظيفة في قتْل الحشرات ، وهناك رياح لها وظيفة في تلقيح النباتات فَمَنِ المدبِّر ؟ الله هو المدبِّر فهو تعالى يسوق كل شيءٍ إلى هدَفِه .
قوله تعالى : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ "
وقوله : " أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ " هذا من التدبير ، وقوله : " وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ " هذا من التدبير ، وقوله : " وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ " ومُلَخّص كل هذا : من يُدَبِّر الأمر ، فالخلق تدبير والهداية تدبير والرزق تدبير والمصائب تدبير قال تعالى :
" فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ " ماذا تنتظر ؟ فما دام الله هو المدبِّر ، فأنت ماذا تفعل ؟ ومن الذي يمنعك من أن تطيعه ؟
أحد العلماء يتساءل : أين كانت تكمُن السنبلة في الحبّة ؟ أحياناً تجد حبّةً صغيرة بذرة خيار ، يقول لك البائع هذه البذرة تُنْتِج خِيارًا طوله ثمانية عشر سنتِمتر لونه أخضر داكن ومُلَمَّع وإنتاجه كثير وغزير ومديد ، فهذه الكلمات التي ينطق بِها بائع البذور ، لو أمْسَكت هذه البِذرة أين ترى هذه الخصائص ؟ قد تجد عشرين خاصيّة لِبذرةٍ فهل عندما تأتي البذور في الأغلِفة أيكون مكتوبًا عليها هذه الخصائص ؟، فلو أنك فتحت هذه البذرة وقمت بِتَشْريحها ؛ هل ترى هذه الخصائص ؟ ما عليك إلا أن تزرعها وهي تنبت بمواصفات عالية كثيفة وغزيرة ومديدة بِحجمٍ مُعَيّن وبِلَوْنٍ مُعَيّن وبِخصائص مُعّيّنة وتُقاوِم أمراضًا مُعَيّنة ، فمن جعل هذه الخصائص في هذه البِذرة ؟ الله جلّ جلاله ؛ يدبِّر الأمر.
قال : أين كانت تكمن السنبلة في الحبّة ؟ وفي النواة أين يكمن اللّب واللِّحاء ؟ فالتِّين مثلاً كم تحوي الواحدة من بذرة ؟ وهل تستطيع عدَّها ؟ فهناك ما يقرب عشرة آلاف حبّة ، البِذرة الواحدة يُمكنُها أن تُنْبِت شجرة تين بِكامِلها ، لها ساق مُعَيّن وجِذع معيّن ولون معيّن وأغصان معيّنة وشكل معيّن وأوراق معيّنة وطبائع معيّنة فقد تجدها تحمل أوراقًا متساقِطة أو دائمة الخضرة ، فكل هذه الخصائص في هذه البذرة التي لا تُرى بِالعَيْن وتحوي كل خصائص التّين ، وهذا تين بعْل وذاك تين أسود وهذا حجمه كبير وذاك حجمه صغير وهذا سكّره جارح وذاك سكّره قليل ، فكل هذه الخصائص أين هي ؟ هو المدبِّر ، وهذه البيضة التي تحوي صفاراً بعد عشرين يوماً تصبِح فرخاً صغيراً فيه عينٌ وأُذن ومِنقار ، وقالوا : هذا الصوص حينما يأتي وقت خروجِه من البيضة ينبت على مِنقارِه نتوءٌ كالإبرة تماماً يكسِر به البيضة وبعد أن يخرج يضمر هذا النُّتوء ويعود المِنقار كما هو عليه في الأصل ؛ مِنقار ينبت له نتوء مدبَّب كالإبرة تماماً وبه يكسر البيضة ويخرج ولما تنتهي مهمّة هذا المِنقار يرجِع إلى وضعه الطبيعي .
ومن أوضحِ آيات التدبير أن الجنين في بطن أمِّه ليس لديه تنفّس فالرِّئة معطَّلةٌ ، عنده دوْرة دمويَّة إلا أن التنفس معطَّل ، فربُّنا عز وجل خلق ثقباً بين الأُذينين فالدم بَدَلَ أن ينتقل من الأذين إلى الرئتين ثم إلى البُطَيْن ينتقل من أُذين إلى أُذين لأن طريق الرِّئتين مسدود ، فما دام الطفل في بطن أمه فالهواء منعدم ، لكن بعدما الطفل يولد قال الأطباء : فتأتي جلطة تُغلِق هذا الثقب في الوقت المناسب وإلا يصاب هذا الطِّفل المولود حديثاً بِمَرَضِ الزَّرَق ، فلا يستطيع أن يتحرّك لأن دمه أزرق ولا يذهب الدم للرئتين لِيَطْرح غاز الفحم ويأخذ الأكسجين ويبقى في الدم غاز الفحم وبِذلك تنعدم القوة على الحركة ، وأغلب هؤلاء الأطفال يموتون في عشر سنوات تقريباً ما لم تُجْر لهم عمليّة باهِظة التكاليف لإغلاق هذا الثقب بين الأُذَيْنين ، فمن المدبِّر ؟ الله عز وجل .
وهذا الكائن البشري أين هو في البُوَيْضة ؟ أين كانت تكْمُن ملامِحه ؟ وأين كانت تكمن نبَرات صوته ؟ ونظرات عَيْنَيه ولفتات جِيدِه واستِعدادات الأعصاب ومُوَرِّثات الجِنس ؟ أين كانت تكمن كل هذه الصِّفات في البُوَيْضة وفي الحُوَين ؟ فمن المدبِّرومن الذي أخرجها إلى حَيِّز الوجود؟ هل تصدِّقون أن على الحُوَيْن خمسة آلاف مليون أمر مُبَرْمَج ؟ وهذا هو معنى قوله تعالى :
(سورة لقمان)
ويسوق الحوادِث إلى غاياتِها ويسوق الإنسان إلى ما خُلِق له ويحرِّك الشمس والقمر ويولِج الليل في النهار وينزل الماء من السماء وينبت النبت ، لقد كان وزنك ثلاثة كلغ عند الولادة فإذا وزنت نفسك عند الكِبر ربما تجدها ثمانين كلغ فكيف تم لك هذا الوزن ؟ ومَن حوَّل الطعام والشراب والتفاح والخبز والجبن والسكر إلى لحْمٍ وعِظام ونُسُجٍ وأجهِزةٍ ؟ إنه المدبِّر .
وهناك أمر آخر في هذا الباب فلو أنك دخلت لِعالم النحل لَوَجَدْت العَجَب العُجاب أيضًا؛ ولو دخلت لِعالم النّمل لوجدت العجب العُجاب ؛ تعقيدات اجتِماعية لِحَشَرة النحل والنمل لا تصدَّق، وشيء لا يُصدَّق أن تبني هذه النحلة بيتاً بِشكل سداسي ، والسداسي هو الشكل الهندسي الذي لا يأخذ فراغات بينِيَّة ويُكْتَفى بِالسُّداسي بِأقْصر ضِلع ، ومعنى ذلك أنه متين كلما طال الضِّلع كلما ضعفت المتانة فهناك مُواصفات رياضِيَة لِشَكل السداسي ، فمن الذي ألهم النحلة أن تبني بيتها على شكلٍ سُداسي ؟ ومن الذي ألهمها أن تذهب للحقول وتمتصّ رحيق الأزهار؟ ومن الذي ألهَمها رقصَة بها تحدِّد جِهة الأزهار وبُعدها وكثافَتَها ؟ الله جل جلاله . ومن الذي ألهم النحلة أن هذه الزهرة ممتصّة الرحيق فلا تقع عليها لأنها قد امتُصَّ منها الرحيق ؟ من الذي يدبِّر الأمر ؟ وهل تعتقِد أن النحلة بِها عقل ؟ لا ، لكنها تقوم بِعَمَلٍ مذهِل في عقلانِيَتِه وتعقيداته ، إذاً من الذي يدبر أمر النحلة ؟ هو الله عز وجل .
وفي سورة الرعد : " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ " .
فالله تعالى كلما أورد التفاصيل وساقها للإنسان أوجزها بِكلمة يدبِّر الأمر ؛ فخلقهُ تدبير ورزقه تدبير وهدايته تدبير وفي النهاية يدبر الأمر قال تعالى :
( طه : الآية 49-50 )
رجل كان في بستان فرأى قنفداً يأكل أفعى كلما أكل جزءاً ذهب إلى نباتٍ وأكل ورقاً من هذا النبات فهذا البُسْتاني كان ذا فضول فقام لِهذا النبات واقتْلَعَه فلما عاد القنفد وأكل جزءًا من تلك الأفعى ذهب لِيَأكل من هذا النبات فلم يَجِده فمات ! فمن الذي ألهم هذا القنفد أن لهذا النبات أثرًا متوزيًا مع لحم الأفعى ؟ الله جل جلاله ، قال تعالى :
(سورة طه)
وفي قوله تعالى :
(سورة الطلاق)
فقوله : " يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ " ؛ هذا من التدبير ، يجب أن تعلموا أن الله تعالى هو الذي يسوق كل شيء لِكل شيء .
إخواننا القراء الكِرام ؛ من تطبيقات هذا الاسم ؛ إذا رأيت يد الله تعمل في الخفاء فهو المدبِّر وإذا رأيت يد الله فوق أيديهم فهو المدبِّر وإذا رأيت أن كل شيء لا يقع إلا منه تعالى فهو المدبِّر .
لذلك توكَّل على هذا المدبِّر الحكيم الرحيم العليم القدير فهو حكيم في كل تدبيره رحيم عليم قدير بِيَدِه الأمر كلّه قال تعالى :
(سورة هود)
وأنت الذي من فَضْلٍ ومن رحمةٍ بعثت إلى موسى رسولاً مُنادِياً
فقلت له اذهب وهارون فادعُوا إلى الله فرعون الذي كان طاغِيا
وقولا له هل أنت سوَّيْت هذه بِلا وَتَدٍ حتى اطْمَأنَّت كما هي
وقولا له أأنت رفعْتها بلا عَمَدٍ أرْفِقْ إذًا بك بانِياً
وقولا له هل أنت سَوَّيْت وسطها منيراً إذا ما جَنَّك الليل هادِيا
وقولا له من يرسِل الشمس غدوة فَيُصبِح ما مسَّت من الأرض ضاحِيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيُصبِح منه العُشب يهتزّ رابِيا
ويُخرِج منه حبّه في رؤوسِه ففي ذاك آيات لِمن كان واعِيا
والحقيقةُ - واللهِ - فيما يبدو أن كل ما في الكون ينطق باسم المدبِّر خلْقاً وتَصرّفاً ومصيراً نباتاً وحيواناً وإنساناً وجماداً وشمساً وقمراً وكواكبَ ومجرات ومذنّبات وليلاً ونهارًا ورزقًا وهِداية وتوفيقًا ألم يقل الله عز وجل:
(سورة هود)
فمن الذي يستطيع أن يسوق الحوادث إلى غاياتِها ؟ هو الله عز وجل .
ومن ثَم فإنه يمكننا أن نستنبط استِنباطاً أن الله جل جلاله جعلك خليفةً في الأرض وينبغي أن تدبِّر أمورك فأنت أبٌ وعليك أن تُدَبِّر أمر أسْرَتِك ؛ بناتك وأولادك وأعمالك ، وأنت طبيب فعليك أن تدبِّر أمر مرضاك، وأنت محامي فعليك أن تدبِّر أمر موكِّليك ، فالذي يُهمِل عمله لا يتخلّق بِأخلاق الله .
فالمدبِّر يوحي بحكمة بالغة ، أذكر أنني اشتريت مرة عِنَبا من منطقةِ باردة وظننته من شكله حُلْوَ المذاق فلما سألت البائع لِم لمْ يكن حُلْوَ المذاق ؟ قال : لم يأتِنا حرٌّ في هذا العام ، فالحرُّ هو الذي يرفع كثافة السكر في الفواكِه ، فمن المدبِّر ؟ إذًا يتضح لكم أنه تعالى هو المدبِّر وأنت خليفته في الأرض ، واللهُ وكَّلَك بِهؤلاء الناس فعليك أن تُدَبِّر أحوالهم .
تجد أحياناً أباً يعتني بِأولاده في أجسادهم وأفكارهم ودراستهم ودينهم ، هذَّبهم وعلّمهم وأحسن علاقتهم بِغَيْرِهم ومنحهم بعض الإمكانات إلى أن يُزَوّجهم ؛ نقول : هذا الأب مُدَبِّر ، وكذلك الأم فهي مدبِّرة ترعى أولادها وتخيط لهم و تطبخ لهم وتعتني بِأخلاقهم وتُحاسِبهم وتراقِبهم وتسهر على راحتهم وتعالِجهم إن هم مرضوا ، فكما أن الله تعالى مدبِّر فإذا وكَّلَك بِأسرةٍ فَكُن لها مدبِّراً ، ووكَّلك بِطلابٍ فكن مدبِّراً لهم ، جاء لِيَشْترِيَ من متجرك فأَعْطِ له الشيء الجيِّد .
فَمِن التطبيقات العمليّة لِهذا الإسم ؛ كما أن الله تعالى دبَّر أمر عِبادِه وأنت خليفته في الأرض ، ما عليك إلا أن تدبِّر أمر من دونك ، فمدير المدرسة والمستشفى والمؤسسة كل من حوله ومن دونه تحت سمعه وبصره ؛ فلان زوجته حامِل فهو يحتاج إلى مُساعدة ، وفلان يحتاج إلى توجيه ، والآخر إلى طبيب ، فأنت إذا كنت في منصِبٍ أعلى كُن مدبِّراً ، كما أن الله تعالى يُدَبِّر أمور عِباده ، فهذا من التطبيقات العملية لاسم المدبِّر وكلما كنت من الطِّراز الرفيع كلما كنت أكثر إيماناً وإتقاناً ، فإتقان العمل هو التدبير والمؤمن يتقِن عمله ، وليكن أخي المؤمن لك حظك من اسم المدبِّر .
والحمد لله رب العالمين
****