المحاضرة رقم "28" : اسم الله : "الهادي"
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الاسم الثامن والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو الهادي ، والله سبحانه وتعالى ، خَلَقَ ثمَّ هدى .
شققنا الطريق ، ثم وضعنا الشاخصات ، صنعنا الآلة وأصدرنا كُتيّب التعليمات ، الله سبحانه وتعالى خلق الكون ثم نوّره .
كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى ، والهادي اسم فاعل ، ما معنى هدى ؟ إن الله عز وجل يقول :
(سورة يونس)
يعني خُلِقتَ لِيُسعِدَكَ ، لا سعادة تنقطع عند الموت ، بل لِيُسعِدَكَ إلى الأبد ، وما الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الحياة الأبدية ، إذاً : " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " الصراط هو الطريق ، الله عز وجل أعطى الإنسان حرية الاختيار ؛ فمن شاء الهُدى هداه إلى صراط يؤدي إلى دار السلام ، خُلقت لدار السلام ، دار السلام هي الجنة ، خُلقت لدار السلام وأنت مُخيّر ، فإذا اخترت دار السلام هداك الله إلى الصراط المستقيم الذي يوصلك إلى دار السلام ، آيةٌ دقيقة المعنى جداً ، لا تظنوا كما يظن بعض الناس أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس ليعذبهم، لا تظنوا أن هذه المصائب عشوائية ؛ وأن هذه المصائب مقررة من قِبَل الله عز وجل لإلجاء العباد إلى بابه قال تعالى : " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " .
ما معنى الهِداية ؟ الهِداية : الإمالة ، هداه أي أماله ، أي وجهه نحو الحق ، فالهِداية في اللغة معناها الإمالة ، وتُسمى الهديةُ هديةً لأن من شأنها أن تُميل قلب المَهْدي إليه .
يقول الإمام الجنيد قال : " اهدنا الصراط المستقيم ؛ يعني يا رب مِلْ بقلوبنا إليك ، وأقم هِمَمنا بين يديك ، واجعل دليلنا منك عليك " ، النقطة الدقيقة : هي أن الإنسان مُخيّر ، ومعنى مُخيّر أمامه عِدة خيارات ، قال تعالى :
(سورة الإنسان)
مَن هو الداعية ؟ هو الذي يقنعك بأن تتجه إلى طريق الحق عن طريق ماذا ؟ عن طريق الإقناع ، وعن طريق الدليل ، وعن طريق التبيين ، وعن طريق التوضيح ؛ فربنا عز وجل هو الهادي .
وبناء عليه فكم طريقة من الطُرق يهتدي بها الإنسان ؟ .. بادئ ذي بدء فالله سبحانه هدى الإنسان إليه عن طريق الخلق ، وأول مخلوقاته الكون ، والله قوي ، وفي الكون مظاهر قوته . وهو الغني وفي الكون مظاهر الغِنى . وهو عليم وفي الكون مظاهر العِلم . وهو رحيم وفي الكون مظاهر الرحمة . يعني بإمكانك أن تقول : إنَّ الكون مظهر لأسماء الله الحُسنى ولِصفاته الفُضلى . فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلتَ إلى الله إنه صنعته ، منه تصل إلى الصانع . إنه خلقه ، منه تصل إلى الخالق ، إنه كونه ، منه تصل إلى المكوّن . إنه تنظيمه ، منه تصل إلى المُنظِّم . به ترى العِلم ، به ترى الحِكمة ، به ترى القُدرة ، به ترى اللُطف ، به ترى العطف ، به ترى الرحمة ، به ترى الخِبرة ، كل ما في الكون يدلُّ على الله عزَّ وجل.
وقد تنظر إلى وردة فكأنَّ الله سبحانه وتعالى تجلّى عليها باسم الجميل . فإذا رأيت البحر هائجاً ، تجلّى الله عز وجل على البحر باسم الجبّار . تارةً ترى اسم الجبّار ، تارةً ترى اسم القهّار ، تارةً ترى اسم المُنتقم ، تارةً ترى اسم العليم ، تارةً ترى اسم الحكيم ، تارةً ترى اسم العليّ الكبير . فكُلُّ مظهر في الكون ؛ يدلُ على اسمٍ من أسمائِه ؛ أو على كل أسمائه فكيف هدانا الله ؟ ، الله قال :
(سورة يونس)
(سورة عبس)
(سورة الطارق)
فإذا أردت أن تهتدي إلى الله فحسبُكَ الكون ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " حسبكم الكون معجزة " .
هذا أول باب ، ولكني أقول للقارئ الكريم : إن باب الكون أوسع أبواب الهُدى ، وأقرب طُرق الهُدى ؛ لأنَّ الكون يضعُك وجهاً لِوجه أمام قُدرة الله ، وأمام عظمته ، وأمام حِكمته، وأمام رحمته ، وأمام عِلمِه وأمام خِبرته . فالله سبحانه وتعالى هداك بخلقه ؛ إذاً الهادي اسم من أسماء أفعاله .
أيها القارئ الكريم يمكنك أن تتأمل آلة وتقول : المهندس خِبرته رفيعة المستوى . وتقول : هذه الألوان التي أعطاها للآلة لطيفة فيها ذوق رفيع . تكتشف علمه ، وتكتشف ذوقه ، وتكتشف خبرته ، لكن أحياناً مع الآلة نشرة ، الآن ربنا عز وجل يهدي الإنسان لا بخلقه فحسب بل بكلامه ، قال :
(سورة الحج)
(سورة التوبة)
(سورة النحل)
(سورة البقرة)
(سورة البروج)
(سورة هود)
وفي الآيات التالية تبين الهدي بكلامه سبحانه وتعالى :
(سورة الرعد)
(سورة الشورى)
(سورة هود)
(سورة الروم)
(سورة الروم)
(سورة فُصلّت)
(سورة الشورى)
(سورة الشورى)
(سورة الروم)
(سورة الروم)
أول بند من بنود الهُدى خلقُه ، فالهادي اسم من أسماء أفعاله .
البند الثاني : أن الهادي اسم من أسماء ذاته ، لأنه المُتكلّم ، فالله مُتكلّم ، والقرآن كلامه.
أحياناً تنظر لشيء رائع ، ويقول لك صانع هذا الشيء : هذه صنعتها لكذا وهذه لكذا ، وهذه المادة الأولية من أعلى مستوى ، وهذه الآلة لأجل كذا ، فقد أعطاك تعليمات من عنده مباشرةً ، فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه ، إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته كما أننا عرفنا أنه اسم من أسماء أفعاله .
إذاً : هداك بخلقه ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله ، وإذا هداك بكلامه ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته . اقرأ القرآن . القرآن يُبيّن لكَ أصل الخليقة ، حقيقة الحياة الدنيا ، ما بعد الدنيا ، كما بيّن لك أسماء الله عز وجل ، بيّن لك صفاته ، بيّن لك أنبياءه السابقين واللاحقين ، بيّن لك حكمة الوجود ، أَمَرَكَ بالصلاة في القرآن ، أَمَرَكَ بالصوم وبالزكاة وبالحج ، بيّن لك لماذا تصلي.
(الآية 45 من سورة العنكبوت)
(سورة البقرة)
(سورة التوبة)
فالله سبحانه هو هادي ، الله هداك بكلامه ، فإذا أردت أن تقرأ القرآن ؛ فالقرآن باب إلى الله عزَّ وجل . والكون باب ؛ لكن (الكون) لغة عالمية ، يعني يراه ويقرؤه ويفهمه المُسلم وغير المُسلم ، العربي وغير العربي ، إفريقي ، صيني ، أمريكي، أوروبي، من أي مكان ، الشمس ساطعة ، النجوم زاهرة ، الكواكب متألّقة ، الماء عذب زلال ، من جعله عذباً زلالاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً ؟ الكون يقرؤه كل إنسان ، لكن القرآن يقرأه العربي .
على كُلٍ ؛ إذا تعمّق الإنسان في معرفة الله عزَّ وجل ، تعلّم العربية حُباً بالله عز وجل ، وقد تجد شعوباً من غير العرب أتقنوا العربية لا لشيء إلا حُباً بالله عز وجل . كيفَ أنك اليوم إذا أردت أن تأخذ شهادة عُليا من بلدٍ أجنبي ، بادئ ذي بدء تتعلم لغة ذاك البلد ، يقول لك : سنتان لغة ، أي تتعلم لغة البلد الأجنبي الذي قصدته لمدة سنتين .
طالب من طلابي نالَ بعثةً إلى تشيكسلوفاكيا ، قال : تعلمتْ لغتهم خلال سنتين ، من أجل شهادة دنيوية ، من أجل حياة محدودة تعلمتَ لغة هؤلاء القوم كي تتعلم عِلمهم ، لذلك إذا عرفت الله عزَّ وجل ، ورأيت أن كلامه شيء ثمين جداً ، فلابد إنْ كنت غير عربي ، من أن تجدَ نفسك مسوقاً إلى تعلم اللغة العربية . والإخوة الأكارم الأفارقة مثلاً ، الأتراك الذين وفدوا إلى هذه البلدة الطيبة ، لتعلُّم أمور الدين ؛ تراهم يتقنون اللغة العربية ، بل إنهم ينزعجون انزعاجاً شديداً لو تكلمنا بكلمة واحدة باللهجة العامية خلال الدرس كله لا يفهمون إلا اللغة الفصحى .
إذاً ، إذا بلغ حُبُكَ لله عز وجل حداً مُعيناً ؛ ترى نفسك مسوقاً إلى تعلُم اللغة العربية . إذاً فالقرآن ؛ باب آخر من أبواب الهُدى . الكون ؛ هداك بخلقه . والقرآن ؛ هداك بكلامه . وأرجو ألا تنسوا أنَّ الله عزَّ وجل جعل الكون كله في كفة ، وجعل القرآن كله في كفة ، قال :
(سورة الأنعام)
فهذه الآية صريحة في ذكر خلق الكون .
لأنهما الكون والقرآن يدلان عليه ، لأنهما يُشيران إليه ، لأنهما يُظهران أسماءَه الحُسنى ، وقال سبحانه في حديثه عن القرآن :
(سورة الكهف)
فالكتاب ؛ هدىً بياني ؛ والكون ؛ هدىً استدلالي .
لاحظ نفسك ، أحياناً تشتري آلة من دون نشرة تعليمات تنظر إليها ، تُدقق ، تستنبط ، تُحرك بعض مفاتيحها ، تُشغلها ، تُحرّك هذا المفتاح ، انقطع التيار ، تُحرّك هذا المفتاح علا الصوت أو انخفض ؛ إذاً هذا المفتاح للصوت ، تُحرّك هذا المفتاح فيصبح الصوت صافياً ، إذاً هذا للتصفية ، تكتشف خصائصها بالتأمل والملاحظة ، لكن إذا رأيت معها نشرة باللغة العربية تقرؤها .. مفتاح رقم واحد للصوت ، الثاني للتصفية .. تَطَابُق ، يُمكن أن تتأمل في هذه الآلة فتصل إلى بعض خصائصها ؛ لكنك إذا قرأت التعليمات التي أصدرها الصانع تصل إلى خصائصها الكاملة . إلاّ أن هناك ملاحظة ؛ فأنت من طريق التأمل تصل إلى أشياء كثيرةٍ جداً لكن ما كل شيء تصل إليه من خلال الكون .
الكون ، يَدُل على وجود الله ، يَدُل على عظمته ، يَدُل على أسمائه لكن الكون لا يَدُلُك على الصلاة ، مهما تأملّت في الكون أين الصلاة ؟ أين ذكرُ خمس صلوات ؟ أين الفرائض ؟ أين السنن ؟ أين الزكاة ؟ أين الحج ؟ أين الصيام ؟ أين غضُ البصر ؟ هذه لابُدَّ لها من منهج أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام . من اكتفى بالكون فقد أخذ شطر الدين ، لكن لابُدَّ من أن تهتدي بالكون جزئياً ، ومن أن تهتدي بالقرآن كلياً .
القرآن يشتمل على أحكام ، كما يشتمل على أوامر ، وعلى نواهٍ وفيه منهج كامل ، وفيه أخبار السابقين ، وأخبار اللاحقين ، فيه بيان للمستقبل البعيد ، وفيه بيان عن ذات الله عزَّ وجل . لا يكفي الكون وحده بل لا بد من أن يتكامل الكون مع القرآن .
دخلتَ إلى جامعة ، تأملت في قاعاتها الفسيحة ، تأملت في قاعات المحاضرات الكبيرة، تأملت في حدائقها الرائعة ، تأملت في بيوت طلابها ، تأملت في مخبرها ، تأملت في مسرحها ، تأملت في مكتبتها أخذك العجب العُجاب ، لكن مهما تأملت في هذه الجامعة وفي أقواسها وقاعات محاضراتها ، مهما تأملت في بيوت الطلاب وفي حدائقها وفي مكتبتها ، لا يُمكن أن تصل إلى نظامها الداخلي ، لا يُمكن أن تصل إلى طريقة النجاح والرسوب ، لا يُمكن أن تصل إلى أسماء الأساتذة ، تأمل في الجدران من هم مدرسو هذه الجامعة ؟ لابُدَّ من كتاب تقرؤه في بيان الكليات ، أقسام الكليات ، رؤساء الأقسام ، عُمداء الكليات ، أسماء الأساتذة اختصاصاتهم ميزاتهم ، موقع كل كلية ، نِظامُها الداخلي ، طريقة النجاح طريقة الرسوب طريقة الانتقال ، طريقة الدرجات المقبول ، امتياز ، شرف ، جيد ، جيد جداً ، هذا شيء لابُدَّ من أن تقرأه في النظام الداخلي .
أنا أقول هذا الكلام وأريد منه أنك إذا فكرت في الكون عرفت عظمة الله عزَّ وجل . أما إذا أردت أن تعرف منهجه ، فلابُدَّ من قراءة القرآن . والقرآن في أساسه موجز ، فيه كُليّات الدين ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فشرحه وبيّنه ، فإذا فكرت في الكون عرفت أن لِهذا الكون خالِقاً عظيماً كبيراً عليماً قديراً حكيماً لطيفاً .. الخ .
لكنك إذا أردت أن تعبده ، وإذا أردت أن تتقرب إليه ، وإذا أردت أن يُحبك ، فماذا تفعل؟ أنت الآن بحاجة إلى تعليمات من قِبَل الخالِق يقول لك صُمْ شهرَ رمضان ، أدِ زكاة مالك، غُضَ بَصَرَك أحسِن إلى أخيك ، اُعفُ عنه ، أنت الآن بحاجة إلى تعليمات هذا الخالِق أنت بعقلك عن طريق الكون آمنت بالخالِق ، لكنك إذاً أردت أن تعرف منهج الخالِق ، أمره ونهيّه ، أخبار الأمم السابقة ، ماذا يُريد منك ، لماذا خُلقت ؟ فلابُد من أن تقرأ كتابه .
أذكّر القراء الكرام مرةً ثانية بمثال الجامعة ، دخلت إلى الجامعة أطلعوك على قاعات المحاضرات ، على بيوت الطلاب ، على الحدائق الغنّاء ، على الملاعب ، على المكتبة الضخمة، أُعجِبتَ بِها ؛ مهما تأملت في هذه الجامعة ، فهل تعرف عن طريق التأمل والمشاهدة كم كُليّة فيها ؛ هل تعرف نظام النجاح فيها ؛ هل تعرف نظام الإقامة في بيوت الطلاب ؟ لا تعرف ، هل تعرف من هم المدرسون ؟ لا تعرف ، ما أسماء الكتب المقررة ؟ لا تعرف .
إذاً الكون ؛ يَدُلُكَ على وجود الله وعلى أسمائِه الحُسنى والقرآن يَدُلُكَ على منهجه ، يعني إذا أردتَ أن تؤمن به ففكّر بالكون ، وإذا أردت أن تعبده فاقرأ القرآن ، بالكون تعرفه ، وبالقرآن تعبده ، لا يُغني أحدُهما عن الآخر . إذا قرأت القرآن ولم تفكر في الواحد الديّان كأنك ما قرأت القرآن لماذا ؟ لأن القرآن يأمُرُكَ أن تُفكر ، فإذا لم تُفكر فقد عطلّت آيات التفكر في القرآن . إذا فكرت في الأكوان ولم تقرأ القرآن عرفت الصانع ، لكن كيف تُصلي وكيف تصوم ؟ أين أمرُه ؟ ما عباداته؟ ماذا يريد منك ، فلا تعرف ذلك إلا بمطالعة منهجه المكتوب .
إذاً فالله هداك بالكون ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله ، وهداك بالقرآن ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته لأنَّ الله مُتكلم ، هداك بكلامه .
ومن َثمَّ فبعدَ أن خَلَقَ الكون ، والكون دلّكَ عليه ، وأنزل القرآن والقرآن بيّنَ لك منهجه، وأمره ، ونهيّه ، وهناك حوادث ، كما أن هناك تصرفات ، شيء ما يحدث ، أمطار تنهمر ، سماء تُمطر ، سماء لا تُمطر تأتي موجة صقيع :
(سورة القلم)
ترى محصولاً ثمنه ألف مليون بثلاث دقائق يتلف بالصقيع ونعوذ بالله من الصقيع ، إذاً له أفعال ، منها صقيع ، ومنها رياح عاتية وأعاصير ، وفيضانات ، وبراكين ، وزلازل ، وكذلك أمراض وبيلة وقهر ، وفقر هذه أفعاله . خلقُهُ يدلُّ عليه ، وكلامه يدل عليه ، كما أن أفعاله تدل عليه :
(سورة هود)
(سورة الشورى)
فلو فرضنا أن طالباً في المرحلة الإبتدائية ضرب زميل له فشكا للمعلم فعاقبه المعلم وضربه ، اثم التقى بزميله فلم يضربه فالمُعلم لا يضربه ثم في لقاء ثالث ضرب زميله فالمُعلم عاد وضربه ، مع بقاء المُعلم ساكتاً ألا يَستنبط هذا الطالب من ضرب المعلم له كلما ضرب زميله ؟ أن المعلم لا يُرضيه أن يضرب طالبٌ زميله ؟ إذاً علّمك لا بكلامه ، ولا بخلْقه علّمك بفعله . مَنَعَ زكاةَ مالِهِ فتَلَفَ مالُهُ بقدر زكاة ماله ، هذا تعليم .
استطلت في أعراض الناس ، فالناس استطالوا في عرضك هذه بتلك . تكبرت ؛ فأهانك الله . تواضعت ؛ فَرَفَعَكَ الله .أنفقت ؛ فعوّضَ الله عليك . بَخِلت ، فأتلف الله مالَك . غضضت بصرك عن محارم الله ، أَسعَدَكَ الله في بيتك . أطلقت بصرك ، أشقاك في بيتك كُنتَ مع الناس صادقاً ، وثق الناس بك . كذبت عليهم ، فَضَحَ أمركَ .
دعك الآن من كتاب الله ، ودعك من خلق الله ، تعال إلى أفعال الله ، أفعال الله وحدها تُعلِّمُكَ ، مرةً ثانية ؛ المعلم ساكت لم يتكلّم ولا بكلمة حينما رآك وكزت زميلك وأنت خارج إلى الباحة ضربك على رأسك ، في الساعة الثانية ما وكزته فلم يضربْك ، في الساعة الثالثة ، وكزته فضربك المعلم وهو ساكت ، سكوته كافٍ ، وفِعلُه يُعلّم ، أليس كذلك . طبعاً على هذه الفكرة ينطبق آلاف الوقائع ، أفعال الله وحدها تُعلِمُك . خلْقُه يُعلِمُك وكلامه يُعلِمُك ، ربنا عز وجل قال:
(سورة النمل)
شخص غشَّ الناس صودرت أملاكه فلماذا صودرت ؟ دليل على أذيّته ، هذا الذي نصحهم لماذا نمَّى الله ماله ؟ هذا الذي أكرمهم لماذا أكرمه الناس ؟ هذا الذي أعطاهم لماذا أعطاه الله ؟
إذاً : هو الهادي بخلقه ، والهادي بكلامه ، والهادي بأفعاله هداك بخلقه وهداك بكلامه وهداك بأفعاله ، لا أعتقد أنَّ واحداً من الإخوة االقرّاء إلا وعلَّمَهُ الله بالأفعال .. صليتَ الصُبح في جماعة ، فشَعَرتَ طَوَالَ النهار أن كلامك سديد ، وأن عقلك رشيد ، وأن أحوالك عالية ، وأن قلبَكَ عامر ، وأن الناس قد هابوك ، وأن الأمور مُيّسْرَةَ .
في اليوم التالي لم تُصلَ الصبح ، فاتتك صلاة الفجر ، فواجهتك مشاكل كثيرة : أول مشكلة بالطريق ، الثانية بالمحل ، الثالثة جاءك موظف تطاول عليك ، الرابعة ذهبت إلى فلان فلم تجده .
لقد عَلّمَكَ بأفعالِهِ ، يوم صليت الفجر في جماعة ؛ فأنت في حفظ الله وفي ذمته ، فلما فاتتك صلاة الفجر ، تلاحقت المشاكل في الطريق وفي العمل وفي البيت ، هذا تعليم ، الله يهديك إليه بأفعاله ، تصدقت جاءتك دفعة لم تكن بالحسبان . سألك إنسان سؤالاً فأعطيته رغم أنك مُضطّر للمال فتح الله عليك رِزقاً .
ذكر لي أخ كريم فقال : اتصلت بي أختي صباحاً ، قالت لي أريد خمسة آلاف ليرة ، قال معي المبلغ ولكني في ضيق شديد وعلي دفعات كبيرة ، نشأ صراع في نفسه ، ثم غلب نفسه وذهب إلى بيت أخته وأعطاها المبلغ وعاد إلى دكانه في سوق البزورية ، فجاءه شخص ، وقال أريد هذه السلعة وسَمّاها ، قلت : ليست متوفرة لديّ ، قال أين توجد ؟ قلت في المعمل الفلاني ، فطلب مني أن أدله عليه ، فذهبت معه ودللته عليه وعدت إلى محلي ، مساءً أتاه صاحب المعمل وأعطاه مبلغاً من المال " طبعاً هذا إذا حسبه على الزبون فيه شبهة أما إذا أعطاه من ربحه لا شيء فيه " قال : أخذت ضعف ما قدمت لأختي صباحاً . ولا أعتقد أن أحداً ممن يقرأ هذا الكلام إلاّ ويلمس أن الله يوماً عامله بما يشبه معاملة ذلك الشخص ، قال عليه السلام : " أنفق بلالُ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً " .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ *
أجل ، علّمَكَ الله عز وجل بأفعاله ، هو يُعلِّمُكُ باستمرار ، لذلك عندما قال :
(سورة البقرة)
يُعلِمُكَ بأفعالِه ، لكنَّ الإنسان حينما يفهم عن ربه ما يأمر وما ينهى ، وحينما تنعقد صِلةٌ مباشرة ، إدراكٌ مباشر ، تجد أن هذه لتلك وهذا الصنيع لذاك الفعل .
شخص له استقامته ، وله انضباطه ، وله ورعه ، سافر في أول رحلة بالطائرة ، زلت قدمه فأطلق بصره ، وصل إلى البلد الآخر فركب سيارة أجرى وأعطى السائق أجرته ، فأخذه السائق إلى المخفر ، العملة مزوّرة ، فقال أنا عضو وفدٍ ومدعوٌ إلى مؤتمر في أعلى درجة ، وإذا به في قفص اتهام . قال : والله دمعت عيني وكأنني عاتبت ربي ، قال : وقع في قلبي " لماذا أطلقت بصرك يا عبدي" ، بالأفعال عاملك .هداك بالخلق وهداك بالقرآن والأن هداك بالأفعال ، هو الهادي ، إذاً الهادي اسم من أسماء أفعاله ، الهادي؛ بالخلق اسم من أسماء أفعاله ، والهادي ؛ بالقرآن اسم من أسماء ذاته .
عزيزي القارئ لقد صممك الله تصميماً دقيقاً ، مثال ذلك في بعض المحلات التجارية، تجد على البضاعة قسيمة بالسعر ، و يوجد مادة على لصاقة السعر ، إذا أخرجت هذه البضاعة دون أن تؤدي ثمنها وأنت خارج تحت قوس معين يصدر صوت عالٍ ، أما إذا أديت ثمنها يعطل الموظف مفعول هذه المادة بمادة أخرى ، فلو رأى واحد شيئاً ، قليل الحجم غالي الثمن وضعه في جيبه ولم ينتبه ، وخرج من هذا المحل ، هذا القوس الذي يَخرج من تحته يُصدر صوتاً مزعجاً ، كأنه يقول هذا سارق خذوه ؛ هذه البضاعة مُصممة تصميماً بحيث أنك إذا أخذتها من دون أداء ثمنها تصيحُ بك هذا من صنعة الإنسان ، فالله سبحانه وتعالى صَمَمَ لكَ نفساً إذا أسأت تشعُر بالضيق ، تُسميه وخز ضمير ، تُسميه كآبة ، تسميه ضيقاً ، ضيق ، كآبة ، وخز ضمير ، ضجر، ضاقت علي الأرض بما رَحُبَتْ صحيح متضايق طبعاً ، لأنَّ فِطرتك عالية ، فأنتَ حينما أسأت خرجت عن قانون فِطرتِكَ ، هكذا علّمَكَ بالفِطرة ، علّمَكَ بخلقه وعلّمَكَ بكلامه ، وعلّمَكَ بأفعاله ، والآن علّمَكَ بالفطرة والدليل :
(سورة الشمس)
يعني ؛ إذا فَجَرَتْ ، تعرف أنها فَجَرَتْ ، وإذا اتقت ، ارتاحت وبعد ، فإن القارئ الكريم وأنا لا أُبالغ يُحس براحة نفسية لا تُقدر بثمن لأنه مطيعٌ لله فكيف يعرف ذلك ؟ ، لو أنه زلّت قدمه لا سمح الله ، لو أنه أطلَقَ بَصَرَهُ، لو أنه فاته فرض صلاة ، لو أنه كذب في كلمة ، لو أنه اغتاب ، لَشَعَرَ كأنه سقط من السماء إلى الأرض ، يشعُر بالضيق ، يُحس بالحِجاب يُحس أنَّ الله أبعده ، أنَّ الله قلاهُ ، أنَّ الله لم يقبلْهُ ، هذا التعليم الرابع ! هداية الفطرة ، الآية الكريمة :
(سورة الروم)
إقامة وجهك للدين حنيفاً ؛ هو نفسه فِطرة الله التي فَطَرَ الناس عليها ، فلا ترتاح إلاّ إذا عَرَفتَ الله ، لأنَكَ إذا عرفته أويت إلى رُكنٍ وثيق ، إذا وجد موظف في دائرة من الدرجة الخامسة ، على أساس الشهادة الثانوية ، لكن المديرَ العام صهُره زوج أخته ، ترى أن هذا الموظف له وضع خاص ، مُطمئن ، يُحس بأمن عجيب بهذه الدائرة ، لا يخشى لا من رئيسه المباشر ولا ممن هو أعلى من رئيسه ولا من المدير المعاون ، كلهم مرتبطون بالأعلى والأعلى يضفي عليه ظله ، فهذا إنسان مع إنسان يُحس بالأمن ؛ فكيف إذا كُنتَ مع الله ، إذا كُنت مع الله فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ علَّمَكَ بالفِطرَة ، الإنسان متى يرتاح ؟ إذا أوى إلى الله ، إذا شَعَرَ أن الله يحبه ، إذا شعر أنه بعين الله إذا شعر أنه بِحِفظ الله ، إذا شَعَرَ أنه يُحب الخلق إكراماً لله ، إذا نام مساءً ولم يؤذِ مخلوقاً ولم يكن لأحد حق في عنقه ، لم يبنِ مجده على أنقاض الناس ، لم يبنِ ثروته على فقر أحد ، لم يبنِ أمنه على خوف الناس ، لم يبنِ حياته على موت غيره ، كان مِعطاءً ، كان خيّراً . إذاً أنت لك فِطرة قال تعالى : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " ، إذا فجرت تعرف .
كنتُ في حفل عقد قِران تبعني شاب كريم ، سألني سؤالاً حول موضوع حاك في صدره ، فهو حينما فعل هذا الشيء المنكر جاء بِمبررات غير صحيحة ، لكنه حينما عاد إلى بلده ، قال : والله ما أعجبتني هذه المبررات ، كأنني رسبت في امتحان الله عز وجل ، لم يُعلِّمُه أحد ولا سأل أحداً ولكنه أدْرَكَ من تلقاء نفِسهِ ، أعني أدرك بفطرته .
إذاً : الله عز وجل هداك بخلقه ، وهداك بكلامه ، وهداك بأفعاله وهداك بالفٍطرة . الله عز وجل له أساليب كثيرة في الهُدى ، بل أحياناً يَهديك بالإلهام قال تعالى :
(الآية 7 من سورة القصص)
هذا وحي إلهام ، يقول لك : اللهُ ألهمني أن أسافر ، الله ألهمني ألاّ أشتري هذه الصفقة ، الله ألهمني ألاّ أشارك فلاناً ، الله ألهمني ألاّ أشتري هذا البيت ، ما عندي دليل ، بل هو إلهام ، قال تعالى : " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ " .
مرةً في أحد أيام الأعياد ، عندي فراغ ونويت أن أذهب لأزور صديقي غربي دمشق ، لكني فجأة وجدت نفسي أنساق إلى بيتي بصورة لا شعورية ، وبلا سبب ، ولا مُبرر ، فما إن وصلت إلى البيت حتى فوجئت برجلٍ يأتيني من مكان بعيد من بلد في الشمال جاء لزيارتي في فترة العيد وليس له في الشام بيت آخر يبيت فيه ، كيف ؟ هذا إلهام . عندما يستسلم الإنسان لله عز وجل يُلهمه الله ، وإلهامات المؤمن كلها لصالحه ، بينما إلهامات الكافر ، أقول إلهامات الكافر مجازاً ومثله الفاسق ، المُنحرف وإنما هي وساوس شيطانية ، كلها لغير صالِحِهِ ، يوسوس له أن يَعقد هذه الصفقة يُفلس من خلالها . يوسوس له أن يُشارك فلاناً يَنهَبُهُ ، يوسوس له أن يفتتح مصلحة أو ينشئ مشروعاً فيكون سبب دماره وخسرانه . هذا وسواس شيطاني ، أنت بين إلهام الرحمن أو وسوسة الشيطان ، فإذا كنت مع الرحمن ألهمك ، وإذا كانَ المرء مع الشيطان وسوَس إليه ، هذه طريقة أخرى في الهدى ، الله يُلهمك ، لذلك قال تعالى :
(سورة طه)
أحياناً يُلهمك أن تزور مثلاً هذا المسجد ، أنا أتكلّم عن سابق تجربة ، إذ ليس من أخٍ اهتدى إلى الله عزّ وجل عن طريق هذه الدروس إلاّ وكنت أسأله سؤالاً صغيراً ، أقول له كيف اهتديت إلى هذا الجامع ؟ فأسمع قصصاً عجيبةً ، مثلاً دخل شخص ليصلي المغرب مصادفة فرأى جمعاً فجلس ، فكان هذا أول درس يحضره وما ترك بعده درساً، هناك إنسان اهتدى عن طريق صديق ، عن طريق قريب ، عن طريق صاحب عن طريق موعد أحياناً ، هذا إلهام .
إذاً بخلقه ، بكلامه ، بأفعاله ، بالفطرة ، بالإلهام ، كل هذا من فعل (الهادي) ، الآن بالرؤيا الصالحة هناك أشخاص إذا رأوا رؤيا صالحة واضحة ، صارخة ، بارزة ، هذه الرؤيا تحمِلُهم على طاعة الله عز وجل ، وهذا شيء مؤيِّد ، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول " الرؤيا الصالحة جزءٌ من سِت وأربعين جزءاً من النبوة " ، أي أنّ الله عز وجل إذا أراد أن يُعلِمَكَ شيئاً ما بطريق مباشر ، بلا اِستنباط ولا تأمّل ولا إدراك ، ولا من طريق الأفعال كما في هذه الآية :
(سورة الأنعام)
الكون .. تفكّروا في خلق السماوات والأرض ، في الكون تفكُّر والأفعال نظر ، والقرآن تدبُّر ، لكن أحياناً يُريد الله عز وجل أن يُعلِمَكَ إعلاماً ، مباشراً ، سريعاً ، حازماً ، واضحاً ، فقد ترى نفسك تسير في طريق الهاوية ، كأن الله يُحذِّرَكَ ، يعني أحياناً تتساءل عن سؤال كبير ، الله عزَّ وجل يُجيبك عن هذا السؤال في الرؤيا .
كثير من الإخوة الكرام تكلّموا لي قبل أن ينام أحدهم فنشأ عنده سؤال فقال : يا رب أنت ألهمني الصواب ، فرأى رؤيا صالحة كأنها إجابة لهذا السؤال ، إذاً هذا هُدى عن طريق الرؤيا ، لكن هُنا نقطة دقيقة جداً ، أيّةُ رؤيا خالفت أوامر الشرع ؛ اسمعوا ما أقول ؛ اركِلهَا بقدمك لأنَّ الشرع هو الثابت وكل ما جاء في الرؤيا خِلاف القرآن الكريم من الشيطان ، لو أن أحداً رأى رجلاً صالحاً ، ويعتمُّ بعمّةٍ خضراء ووجهه يَشِعُ نوراً وقال له لا تصلِّ ، نقول له هذه الرؤيا اركِلهَا بقدمك ، لا تُصدق كل ذلك كلام فارغ ، نحن عندنا مقياس الشرع ، أيَة رؤيا تُخالف أوامر الله تُخالف شرعَ الله عزَّ وجل ، لا تعبأ بها ، ولا تُقِم لها قيمة ، ولا تأخذ بها ، ولا تحفل بها فإنها ، قطعاً ، من الشيطان .
لكنَّ الرؤيا التي من الرحمن لها خصائص ، إذا كنت لا سَمَحَ الله مُنحرفاً ، ورأيت رؤيا مُخيفة ، فهذه من الرحمن قطعاً ، وإذا كنت مُحسناً ، ورأيت رؤيا مُبشِّرة ، هذه من الرحمن قطعاً.
فإذا كُنتَ مُحسناً ، ورأيت رؤيا مُخيفة ؛ هذه من الشيطان لكي تخاف ، وإذا كُنتَ لا سَمَحَ الله مُسيئاً ، ورأيت رؤيا مُبشِّرة ؛ هذه أيضاً من الشيطان الأصل الشرع واستقامتك ، فهذه ثوابت .
بالمناسبة ؛ الرؤيا لا يُمكن أن تكون قاعدة ، ولا يُمكن أن تكون دليلاً . إنها اتصال مباشر بين العبد وربه فقط ، يعني شيء لا يجبر على فعلٍ ولا يُنقل أثره إلى غيره إنما هي شيء شخصي مَحضْ ، هذه الرؤيا .
أحياناً يَهديك عن طريق خلقه ، لا عن طريق مُخلوقاته عن طريق الأشخاص فمثلاً ، يجمعك مع شخص يحكي لك موضوعاً ، فحينما ألتقي مثلاً بإنسانٍ ويتكلّم هذا الإنسان ، أشعر بطريقة أو بأخرى وأتساءل من الذي جمعني بهذا الإنسان ؟ هو الله ، من الذي ألهمه ؟ هو الله ، من الذي أنطَقَهُ ؟ هو الله ، يعني حينما تكون في طريق غير صحيح ، ويأتي إنسان يُبيّن لكَ الصواب ، فإني اعتقد اعتقاداً صحيحاً أنَّ هذا الإنسان قد ساقَهُ الله إليك لِيُبلِّغَكَ ولِيُعّرِفَكَ ، هذا أيضاً هُدى عن طريق الخلق .
وهناك هُدى من نوعٍ آخر ، هذا الهُدى الانقباض والانبساط يقول لك انقبضت ، أزمعت أن تسافر إلى جهة ما فشعرت بانقباض ، أو شعرت بانشراح ، أو الأمور تيّسرت أو تعسّرت ، فالانقباض والتعسّير والانشراح والتيسّير هذا تعليم أيضاً ، فإذا كان الله راضياً يكون هناك انشراح وتيسير ، الله غير راضٍ وأنت مؤمن عِندَكَ حساسية وعِندَكَ إدراكٌ دقيق أنت مؤمن فأصبحَ هُناكَ انقباض وتعسير إذاً هذا شيء لا يُرضي الله عزَّ وجل .
وكخلاصة أوجز بها الموضوع أقول: أحياناً يسلُب الله سبحانه وتعالى لُبَّ عبده أي عقله ويُسيّرَهُ تسييراً سليماً في جهة ما ، هذا أيضاً هُدى . فإذا قُلنا الهادي يعني هدانا بخلق الكون، وهدانا بالقرآن وهدانا بأفعاله وهدانا بالفِطرة ، وهدانا بالإلهام ، وهدانا بالرؤيا ، وهدانا عن طريق الأشخاص ، وهدانا عن طريق الانشراح والانقباض والتيسير والتعسير ، ثمَّ هدانا عن طريق التسيير المباشر . هذه كلها تعني أنَّ الله هو الهادي قال تعالى :
(سورة الأعلى)
العلماء لهم تفسيرات دقيقة للهُدى الإلهي ، الهُدى أربعة أنواع :
- أول هُدى الهُدى العام : الله عزَّ وجل زوّدَكَ بحاسّة الشم تقول رائحة غاز . كيف هداك إلى وجود غاز وفيه خطر على البيت ؟ عن طريق الشم . أحياناً تسمع صوتاً في الغرفة الثانية ، كيف هداك أن هناك حركة في البيت ؟ عن طريق السمع ، أعطاك حاسة الشم ، أعطاك حاسة السمع . أعطاك ملكة الإستدلال والتفكير ، أعطاك عِلماً ، أعطاك خِبرة أعطاك حواسَ خمساً ، هذه كُلُها القدرات التي أودعها الله في المخلوقات هداهم إلى مصالحهم .
إئت بنملة ضع أصبعك أمامها تقف وتُغيّر طريقها ، يعني أن الله أعطاها بصراً ، أعطاها إدراكاً بأنّ هنا خطراً وهو حاجز ، الله عزَّ وجل هدى كل الحيوانات ؛ عن طريق الغريزة إلى مصالحها .
أحد الأشخاص كان في بستان ، فرأى قنفذاً يأكل أفعى ، أكل قطعة منها ثم تركها وذهب إلى نبات وأكل منه ورقة ، ثم عاد ، وأكل قطعة ثانية ثم ذهب إلى هذا النبات وأكل ورقة ثانية ، فهذا البستاني أمسك النبات وقلعه ، وأكل القنفذ قطعة ثالثة ثم ذهب للنبات فلم يجده فمات القنفذ من هداه إلى أن هذا النبات يتناسب مع هذا الطعام ؟ الله عزَّ وجل .
مثلاً: لو أحضرنا أمهر رُبان في العالم ، أعلى رُبان على وجه الأرض في علمه ومهارته يحمل شهادات عُليا وعنده ألفا ساعة قيادة سُفن ، وعنده دراسات وعنده اختصاص ، وعنده خِبرات ، لو وضعناه على سفينة بلا بوصلة على ساحل فرنسا ، وقلنا له : اتجه بها إلى مصب نهر الأمازون ، لا أبُالغ إذا قلت ربما جاء البرازيلَ في جزئها الجنوبي ، فلا مجال ولا بدون البوصلة إمكانية ، ولو انحرف درجة في بدء مساره لانحرف في النهاية مسافة خمسمئة كيلو متر ، أما سمك السلمون يتجه من سواحل الأطلسي إلى مصبات الأنهار في أمريكا، وكل سمكة وُلِدَتْ بمنبع نهر تتجه إلى مصب النهر ، وهذه السمكة المتجهة ليست هي التي قدمت عند بدء الرحلة بل أمها هي التي جاءت إلى هنا ، ثم وضعت بيضها وربما ماتت في مكانها الجديد ، أما السمك الجديد بعد أن يخرج من البيوض يتجه نحو الشرق إلى سواحل فرنسا إلى حيث بدأت رحلة الأمهات فإذا كبرت عادت إلى مصبات الأنهار ، قال تعالى :
(سورة طه)
هذه هِداية ، فأول هِداية : هِداية عامة ، هُديَ الإنسان إلى طعامه ولباسه إذ صَنَعَ نسيجاً ولَبِسْ ، صَنَعَ بيتاً ، طها الطعام ، طهي الطعام شيء معقد جداً ، تأكل الأكلة فإذا كان فيها خلل تتضايق منها ، من هداك لوضع ملح وطحينة وكمون وفلفل وعصفر ؟ مَن ؟ إذاً لدينا هُدى ، هُدى إلى كسب الرزق ، هُدى إلى تأمين المعاش ، هُدى إلى تأمين الحاجات ، فهذا الهُدى الأول هِداية عامة .
- الهُدى الثاني هِداية الإيمان ، يهديك إليه ، يهديك إلى كتابهِ يهديك إلى الحق .
- الهُدى الثالث : هِداية التوفيق ، قال تعالى :
(سورة الكهف)
- الهُدى الرابع : هِداية الجنة ، قال تعالى :
(سورة محمد)
إذاً هناك هداية عامة ، وهِداية الإيمان وهِداية التوفيق والهُدى إلى الجنة ، هذا بعض ما يمكن أن يقال في موضوع اسم الهادي . لكن في ختام هذا البحث لابد من بيان قوله تعالى : "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " هذه الواو تفيد أن الجملة ليست شرطية ، ليس اتقوا الله يعلمْكم بل : .. واتقوا الله ، لماذا لا تتقونه ؟ لأنه يُعلمكم ، يُعلمكُم دائماً بالخلق ، وبكلامه وبأفعاله وبالفِطرة وبالإلهام ، وبالرؤيا وبالخلق ، وبالقلب وبالانقباض والتيسير وبالتعسير وما إلى ذلك . " وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " . ولعله صار واضحاً أنه بتقوى الله تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه وليسعد إلى الأبد .
والحمد لله رب العالمين
****