--------------------------------------------------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلائق فأتقن ما صنع، وشرع الشرائع فأحسن ما شرع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، أقام صرح الفضيلة ورفع، ودفع أسباب الرذيلة ووضع،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والحياء والزهد والورع، ومن سار على نهجه واتبع، وسلم تسليماً كثيراً.
الخطبة الأولى :
أما بعد : فيا أيها المسلمون اتقوا الله – تبارك وتعالى – حق التقوى ..
عباد الله : مقياس صلاح الأفراد والمجتمعات، ومعيار رقي الأمم والحضارات، عقيدةٌ تزكي النفوس، وإيمان يقوِّم الأخلاق، ودين يهدي إلى الفضائل، ويعصم من الوقوع في الرذائل، وعنوان نقاء المعدن، وزكاء العنصر، وحياة الضمير، وازعٌ يمنعه من اقتراف الآثام، وارتكاب الدنايا، وأرق الناس طبعاً، وأقواهم ديناً، وأنبلهم سيرة، وأصلحهم سريرة، مَن عاطفته حيةٌ متوقدة، وضميره يقظٌ مرهف، يترفع به أبداً عن مقارفة الخطايا، ويستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور، والاشمئزاز من كل المنكرات والشرور، وقليل المروءة وبليد الشعور، مَن لا يبالي بفضيلة، ولا يتورع عن فعل رذيلة، ينفلت من الأخلاق بلا مبالاة، ويتحرر من القيم بلا اكتراث، ويتحول وحشاً كاسراً ينطلق خلف شهواته، وينساق خلف ملذاته، ويدوس في سبيلها أزكى العواطف وأنبل المشاعر والقيم، فلا وازع يردعه، ولا حياء يمنعه، بل ولا فطرة نقية وعقلية سوية .
هبي بعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تُضرَمِ
أليس من الواجب المستحسن حياء العباد من المنعمِ
أيها الأخوة والأخوات .. ولم يزل الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة مستمراً، وقد بلغ أوج خطورته في عصر الانفتاح والانفلات، والانسياق وراء الشهوات، والاسترسال خلف الملذات، والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، ولقد كان التساهل بقضايا المرأة من الأسباب الرئيسة في حصول واقعٍ منحرف، ومجتمعٍ منجرف، وجيلٍ عن تحصيل الخير منصرف، وإن الثالوث الخطير الذي يمثل أخطر معاول الهدم والتدمير في المجتمع الإسلامي، كله يركز على المرأة تبرجاً وسفوراً واختلاطاً، وذلك كله لم يأت مصادفةً ولا اعتباطاً، وإنما نتيجة تخطيط دقيق، ومؤامرة شرسة، ضد دين الأمة ومثلها وقيَمها، حتى خُدِع كثير من المسلمين والمسلمات بشعاراتٍ براقة، ودعاياتٍ مضللة، تَعُدُ الالتزام بنهج الله وشرعه جموداً ورجعية، والانفلات والإباحية؛ حريةً وتقدمية، والانسياق وراء الشهوات رقياً وتحضراً ومدنية، والتبرج والسفور والاختلاط مَوْضَة، والخلاعة والفجور والانحلال فناً، والعلاقات المحرمة حباً، مما يتطلب يقظة الأجيال، والمسؤولين عنهم من النساء والرجال، أداءً لحق القوامة والرعاية، وامتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } .
أيها الأحبة في الله .. وما حرم الإسلام التبرج والسفور والاختلاط، وشرع الحجاب إلا تكريماً للمرأة، وحفاظاً على مكانتها، حرصاً على إقامة المجتمع النظيف، والجيل العفيف، الذي لا تهيِّجه الشهوات، وتستثيره المغيرات، وسداً لذريعة الفساد، وحثاً على اتخاذ التدابير الواقية من الوقوع في الشر والانحراف، وذلك هو عدل الإسلام في صيانة المجتمع من المزالق، وهو أهدى سبيلٍ لسعادة البشرية جمعاء، بكلِّ عزةٍ وإباء، في عيشٍ خَيِّر وحياة هنيئة، يظللها الإيمان، ويرفرف على جنباتها الحياء، إذ بدونه يفسد العيش وتظلم الحياة .
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء .
أمة الإسلام …إن تبرج المرأة وتزيُّنها وتعطرها واختلاطها بالرجال في الأماكن العامة تزاحمهم، وتستهوي نفوسهم، وتفتن قلوبهم، لهو دليل على ضعف الوازع الديني في نفسها أو عدمه، وأمارةٌ على موت الغيرة، وبلادة العفة وقلة الحياء.
وإذا الحياء تهتكت أستاره فعلى الحياة من الحياء عَفَاءُ .
إن المرأة المتبرجة المختلطة، الخرَّاجة الولاجة، إن سلمت في نفسها، فإن الناس لا يسلمون من فتنتها، والافتتان بها، فكم فيهم من عزبٍ لا يجد نكاحاً، وكم فيهم من شابٍ محترقٍ بشهوته ولا زوجة له يسكن إليها، بل وكم فيهم من ذئبٍ محترف، ولصٍ متفننٍ بسرقة الأعراض، بارعٍ في أساليبها واقتناصها، وقد يكون فيهم عبدٌ صالحٌ عفيف، ورجلٌ تقيٌ شريف، أغواه الشيطان، فذَّل بعد العز، وتدنس بعد العفة، بفعل هذه
الفاتنة المفتونة، وقد قال الأول:
قل للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا فعلت بناسكٍ متعبدِ
قد كان شَمَّرَ للصلاة ثيابهُ حتى عَرَضتِ له بباب المسجِدِ
رُدِّي عليه صلاته وصيامهُ لا تفتنيه بحق دين محمدِ
معاشر المسلمين والمسلمات … اختلاط الرجال بالنساء، أصل كل فساد وبلاء، ما سرى في مجتمعٍ ولا فشا في أمةٍ إلا وأوردها موارد الهلاك، لما يسببه الاختلاط بين الجنسين من فتنٍ وفظائع، ودمارٍ يحول الديار بلاقع، انه يحرك في النفوس كوامن الغريزة، ويشعل نار الشهوة الجامحة، ويؤجج عواطف الغرام، ويغري كلاً من الجنسين بالآخر، فيرخي العنان للشهوات التي لا حدود لها، يقترن بذلك مجونٌ فاحش، في صورٍ عارية وشبه عارية، وقصص غرامية، ومسلسلاتٍ هابطة، ما يُزْعَمُ بأنه أدب مكشوفٌ مليءٌ بقلة الأدب، ومناظرٍ مثيرة، ولوسائل الإعلام في ذلك نصيبٌ وافر، فينشأ الناشئة ويتخرج الأجيال في هذا الجو المحموم، وهذا الوضع المسموم، الذي تغلي مراجله بصور الإغراء والإثارة، التي تغتال تربيتهم، وتطفئ فيهم القوى الإيمانية والفكرية، وتقضي على صفاتهم الرجولية والأخلاقية والسلوكية، ولا يكادون يشقون عن الطوق ويبلغون الحلم، حتى تغتالهم الشهوات البهيمية، لأن البضاعة معروضة، والمظاهر مغرية، والنفس أمارة غرارة، والشيطان عدوٌ يتربص، والشهوة هائجةٌ مائجة، والرقيب يغفل ويتشاغل، بل ويتكاسل ويتساهل، فيتحول المجتمع إلى لهوٍ وعبثٍ ومجون، يعج بالفوضى الجنسية، والعشوائية الغريزية، والفسق والإباحية، فتنذره بالويل والثبور، وتجره إلى الهلاك والعطب وعظائم الأمور، لذلك حرم الإسلام إطلاق العنان للنظر، وأمر بغض البصر، فقال سبحانه {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ….. الآية}
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أُخِذَت بلا عوضٍ ولا أثمان
كما نهى الإسلام عن الدخول على النساء، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن عقبة بن عامر –رضي الله عنه – أن رسول الله - - قال: " إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو يا رسول الله ؟ قال: الحمو الموت " والحمو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه، وعمه وابن عمه، وخاله وابن خاله، بمعنى أن خلوة الحمو أشد خطراً من خلوة الغريب، لأن دخوله لا يثير ريبة، ولا يلفت الأنظار، والناس كثيراً ما يتسامحون فيه، شبهه بالموت في المفسدة، فالله المستعان .
كيف استباح بعض الناس ذلك ؟!! حتى لكأنه عاديٌّ مألوف . لا. بل بعض الناس لا يتورع أن يسمح لزوجته أو موليته أو يلزمها بمجالسة أصدقائه واستقبالهم، بل وتبادل الضحكات معهم، فهل هذه أخلاق الإسلام، كما حرم الإسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سمع النبي - - يقول:"لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم" وعند أحمد والترمذي والنسائي والحاكم بسندٍ صحيح أنه - - قال"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" ولا يخفى على كل أحد، ما عمَّت به البلوى من تساهل كثير من الناس في ذلك، لاسيما من ابتلوا باتخاذ الخدم والسائقين الذين نراهم يروحون ويغدون وينفردون بالأسر بدون محارم، ويدخلون قعر البيوت، وكأنَّ الأمر طَبَعِيٌّ سائغٌ لا شيء فيه، ومثله الخادمات اللاتي يخالطن ربَّ الأسرة وأبناءه من الشباب، وفي ذلك من الخطر العظيم ما لا يخفى على كل ذي غيرة، ومن التساهل الملاحظ مصافحة المرأة الأجنبية، وهو يحصل عند كثير من الناس بسبب الاختلاط،وهذا لا يجوز حتى لو كان المصافح ابن عمٍّ أو ابن خال، تقول عائشة – رضي الله عنها – "لا والله ما مست يد رسول الله - - يد امرأة قط" رواه البخاري في صحيحه، وقالت أميمة بنت رقيقة وصاحباتها – رضي الله عنهن – عند البيعة: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك، قال لهن: إني لا أصافح النساء" وعند البيهقي والطبراني ورجاله ثقات " لأن يُطْعَنَ في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له".
أختي المسلمة .. يا فتاة الإسلام .. يا سلالة الأكرمين.. ويا حفيدة أمهات المؤمنين، إن بيتك لك حصنٌ حصين، وملجأٌ أمين، وظِلٌّ وارف، هو قوقعة الجوهرة، وصدفة اللؤلؤة، ومكنون الدرة، تزداد فيه نضارةً وبهاءً، وحسناً وضياءً، وحين تخرج منه يخبو نورها، ويتضاءل ضياؤها، ويذهب جلاؤها، اسمعي إلى قول الحق – تبارك وتعالى – {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
وإن الدعوة إلى اختلاط الجنسين، دعوةٌ آثمة يريد أصحابها تدمير أخلاق الأمة وقِيَمِهَا، تصوروا وضع مجتمعٍ مختلط، هائجٍ مائجٍ؛ نساؤه ورجاله في الشوارع والأزقة، والمدارس والدوائر والمؤسسات والشواطئ والمنتزهات، تصوروا المرأة الضعيفة وهي تعمل آلةً في مصنع أو في ميدان حرب، أو تحمل الأمتعةَ وتُعَقِّبُ في الدوائر، تصوروهن وقد أنهكهن العمل، وقد برزت مفاتنهن، أَوَليس هذا الموضع محزناً ومؤلماً لامرأةٍ صانها الإسلام وكرمها، وضَمِنَ لها الحقوق ؟!! هاهي المرأة الغربية، أما يكفي زاجراً ويكفي واعظاً وضع المرأة الغربية، هاهي تصيح وتنادي: ألا ما أحسن للمرأة من بيتها وزوجها وأولادها تربي وتبني وتنشئ الأجيال، بعدما عمَّت الإحصاءات وبلغت من الجرائم أرقاها وأعظمها، أرقامٌ مذهلة من جاء الاختلاط والتبرج، ولكننا نعجب كل العجب، حينما تطالعنا دعواتٌ آثمة بأقلامٍ مأجورة، لأناسٍ يعيشون بين ظهراني المسلمين، ومن بني جلدتهم ويتكلمون بلغتهم، يطالبون بالاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم، وتوظيف المرأة جنباً إلى جنبٍ مع الرجل، فماذا يريد هؤلاء؟ وإلى أي هدفٍ يقصدون ؟ ولربما اغترَّ بعضهم بثقافاتٍ وافدة، وأُعجب بمؤهل يحمله، وشهادة زورٍ يتصدر بها، ولكن ولله الحمد والمنة أن هذه الدعوات الآثمة لم تَعُد تلق القبول إلا من قلةٍ قليلةٍ لا اعتبار لها.
فيا أيتها المرأة المسلمة. عودي إلى الله، والتزمي شرع الله، لا تغتري ببريق الشعارات، وزائف الدعايات، ويا أيها الرجال أين القوامة والرعاية ؟!! والله - - يقول { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أين القيام بالأمانة والمسؤولية ؟!! ولا نبالغ حينما نقول: إن الاختلاط والتبرج الذي حلَّ بالمجتمعات سببه موت غيرة بعض الرجال، وبلادة إحساسهم، وسبات ضمائرهم، وإلا فهل يرضى صاحب العفة والغيرة والشرف والمروءة، أن تكون موليته لقمةً سائغة، ومائدةً مكشوفة، تلاحقها نظرات الناس، تلتفت لكل هامس، ولا ترد يد لامس، وقد قال - - "صنفان من أهل النار لم أرهما، قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مائلاتٌ مميلات، كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرةِ كذا وكذا". رواه مسلم في صحيحه، ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا على أيدي سفهائكم، ولا تتساهلوا بما أوجب الله عليكم، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته .
أسأل الله –تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يحفظ مجتمعات المسلمين من أسباب الشر والفساد بمنه وكرمه، إنه جوادٌ كريم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .